الرهان الأول لإيران للتخفيف من هول العزلة الدولية المتوقعة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، نتيجة عزم الرئيس دونالد ترامب على فرض حصار شامل عليها، يقع على الصين، وعلى روسيا ثانياً، باعتبار بكين المستورد الرئيس لنفطها، إذ إنها وحدها القادرة على إبقاء القيادة الإيرانية فوق سطح الماء، على الأقل موقتاً. هناك استثمارات كبيرة أخرى للصين في قطاعات البناء والبنى التحتية في إيران، لكنها ليست مرشحة للتوسع بسبب حرص بكين على علاقاتها التجارية والمالية مع الغرب عموما ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص. فعلى رغم تنامي العلاقات بين بعض الدول الأوروبية مع إيران منذ التوقيع على اتفاقية الملف النووي في 2015، فإن هذه الدول بدأت بإعادة النظر في هذه العلاقات لدرء الضغوط الأميركية عنها. هذه الدول تواجه واقعاً لا مفر منه وهو الخيار بين إيران وعلاقاتها التجارية مع أميركا التي تزيد عن عشرة أضعاف حجم علاقاتها مع إيران. وبما أن روسيا لا تشكل بديلاً عن الغرب، وفي غياب أي احتمال للاعتماد على أوروبا، فليس لإيران على الصعيد الدولي سوى الصين لملء الفراغ. ولكن الصين في واقع الحال وفي ضوء تجربة أربعة عقود تقريبا من العلاقات المستمرة بين البلدين، فإن صادراتها، من حيث الكم والنوع، لم تُشفِ غليل سوقٍ متنورٍ من شعب إيران ذي الأغلبية الشابة والمتطلعة نحو الانفتاح نحو العالم، لا سيما الغرب. بدءاً من السادس من آب (أغسطس) الجاري ستتخذ واشنطن المزيد من إجراءات الحصار على طهران بالتهديد إما بالضغط أو مقاطعة كل من يستمر بالتعامل مع إيران من الدول بما في ذلك الحلفاء. والضغوط الأميركية بدأت تلامس لقمة خبز المواطن الإيراني، إذ انهارت قيمة العملة، الريال، أخيراً إزاء الدولار إلى مستوى غير مسبوق (نحو 90000 ريال)، أي نسبة 50 في المئة منذ إعلان ترامب الانسحاب من اتفاق الملف النووي. ففي اقتصاد يعتمد أساساً على البترودولار والاستيراد الكثيف، فإن مالإيرانيين بغالبيتهم فقدوا عملياً جزءاً كبيراً من ثرواتهم، إثر ارتفاع الأسعار لجميع السلع بما في ذلك السيارات. حالياً مع وجود جون بولتون، السياسي اليميني المتطرف والمزاجي الهوى في قيادة الأمن القومي الذي لا يخفي رغبته في تغيير النظام في طهران، سيكون من الصعب مقاومة الاندفاع نحو المزيد من إجراءات الحصار ضد طهران. واضح أيضاً أن السيل بلغ الزبى بالنسبة لحرية حركة إيران في المنطقة بدءاً من العراق إلى سورية ولينان ومن ثم اليمن، وهو موضوع يخضع الآن لمراجعة مهمة في مناقشات تجرى منذ أشهر عدة بين موسكو من جهة وكل من واشنطن وتل أبيب من جهة أخرى. فقد وصل التدخل الإيراني المفتوح من دون حدود في المنطقة والتنسيق مع روسيا، لا سيما في سورية، منذ 2015، حداً لم يعد مقبولاً بالنسبة إلى إدارة ترامب، إذ سمح اتفاق الملف النووي بدلف عوائد باهظة من تصدير النفط إلى الخزينة الإيرانية حيث تمكنت طهران من الانفاق على ميليشيات تابعة لها من أفغانستان وباكستان ولبنان بما لا يقل عن 18 مليار دولار. كما تمكنت من إنقاذ نظام الأسد في دمشق بحقنه بنحو أربعة مليارات دولار لإبقائه على قيد الحياة. وفي تقديرات مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية أن «حزب الله» اللبناني كان أكثر المستفيدين من اتفاق الملف النووي لجهة توفير ثروة هائلة من عوائد النفط للخزينة الإيرانية، حيث باتت طهران تزود هذه الميليشيا بنحو 700 مليون دولار سنوياً. أضف إلى ذلك التصعيد المتزايد ضد دول الخليج العربية منذ 2015 من خلال القوى المحلية التابعة والممولة من قبل إيران، أكان في البحرين أو في اليمن. صحيح أن المواجهة المباشرة بين واشنطن وطهران لم تقع بعد، إلا أن الولايات المتحدة تقوم بنشاط كثيف لمساعدة الدول أو القوى المعرضة للهجمة الإيرانية الشرسة، أكان في الخليج أو في سورية والأردن. المواجهة الأهم حتى الآن تجري على الجبهة الاقتصادية، إذ تقوم الشركات تلك التي فتحت أرصدة استثمارية لها في إيران بعد 2015 بإعادة النظر في تلك الاستثمارات قبل تعرضها للمقاطعة الأميركية. أهم القطاعات الاقتصادية التي تتعرض للحصار بدءاً من هذا الأسبوع (4 آب/ أغسطس الجاري) قطع غيار السيارات وتجارة الذهب وصناعات أخرى. صحيح أنه قد يكون من الصعب العودة إلى حالة الحصار الشديد التي كانت قائمة قبل اتفاق 2015، ولكن ينبغي عدم الاستهانة بإمكانات الضغط المتاحة لدى واشنطن للتصعيد في الحصار، إذ قامت هذه الأخيرة بنشاط واسع في الأسابيع القليلة الماضية لإبلاغ حلفائها بنياتها تجاه القيادة الإيرانية. ويبدو أن التحركات الأميركية بدأت تترك أثرها مباشرة على الاقتصاد الإيراني إذ وفقاً لتقارير دولية عدة أن النمو في العام الجاري لن يزيد عن 8.1 في المئة بالمقارنة مع 5.4 في المئة في مرحلة ما قبل انسحاب أميركا من اتفاق الملف النووي في 2015. في النهاية لا تزال الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأكثر تأثيراً في العالم حيث لا يستطيع الآخرون (بما في ذلك الصين وروسيا) تجاهل موقف واشنطن من طهران. المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون تمويل الإرهاب دانيال غلاسير يقول: «حقيقة الأمر أنه عندما يُفرض على الشركات الأجنبية الاختيار بين التعامل مع إيران وبين الدخول إلى أسواق المال الأميركية، فإنها ستختار الأمر الأخير». لعل هذا ما يفسر التصريحات النارية للرئيس الإيراني حسن روحاني في 22 تموز (يوليو) الفائت والتي عادة ما تصدر عن الزعيم الروحي آية الله خامنئي أو قيادات «الحرس الثوري». «السيد ترامب»، قال روحاني، «عليك أن لا تلعب بذيل الأسد (نسبة لراية إيران ما قبل 1979 التي تُبرز الأسد والشمس)، لأنك لن تحصد سوى الخيبة». ولكنه ترك الباب موارباً لأي مصالحة محتملة مع واشنطن بقوله: «على أميركا أن تدرك أن السلام مع إيران هو أم كل أشكال السلام، والحرب معها هي أم كل الحروب». شعار «أم المعارك» رفعه صدام حسين سابقاً وحصد نتائجه بنهايته ودمار بلاده. مع اقتراب موعد تصعيد الحصار هذا الأسبوع والحصار الأشد في تشرين الثاني المقبل، سيكون الخيار أمام القيادة الإيرانية، وفي جميع الأحوال، مُرّاً.
مشاركة :