دخلت كرة القدم في جبل طارق التاريخ، ولم يكن السبب هذه المرة هو تلقي منتخب هذه الدولة عدداً قياسياً من الأهداف (124 هدفاً خلال أربع سنوات ونصف، وفقاً لآخر إحصاء) أو فوز نادي لينكولن ريد آمبس على سيلتك الاسكتلندي في دوري أبطال أوروبا، لكن السبب وراء دخول جبل طارق تاريخ كرة القدم العالمية هو أن نادي جيبرالتار يونايتد قد أصبح أول فريق كرة قدم في العالم يدفع للاعبين رواتبهم عن طريق العملة الرقمية المشفرة.ودخل النادي في شراكة مع مؤسسة «كوينتوكوين» للعملة الرقمية المشفرة، والتي يستثمر بها مالك النادي، بابلو دانا. ويقول دانا إن جميع عقود اللاعبين ستنص على حصولهم على المقابل المادي عن طريق العملة الرقمية المشفرة بحلول الموسم المقبل.قد يرى البعض ذلك أنه دخول عشوائي للعملة الرقمية المشفرة إلى عالم كرة القدم عن طريق فريق شبه محترف في بطولة لم تُعتمد من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم سوى في عام 2013، لكن عندما ننظر إلى الأمور عن كثب، فستبدو هذه الخطوة منطقية للغاية، وذلك لأن قطاع التمويل في جبل طارق يقوم بعمل رائع في مجال التكنولوجيا المالية (الابتكار التكنولوجي في القطاع المالي) وفي مجال الـ«بلوكتشين» (قاعدة البيانات العامة التي تحتفظ بسجل دائم للمعاملات الرقمية في العملة الرقمية المشفرة).وفي يناير (كانون الثاني) عام 2018، فرض جبل طارق قوانين تنظم الأعمال التجارية التي تستخدم الـ«بلوكتشين»، ومن المقرر أن تطلق الحكومة أول إطار قانوني عالمي للعروض النقدية الأولية (ICOs).وتُظهر هذه الاستراتيجية أن جبل طارق متقدم بخطوة في هذا المجال. وخلال العام الماضي، بلغ حجم الاستثمار العالمي في العروض النقدية الأولية نحو 3.7 مليار دولار، مقارنة بـ102 مليون دولار في عام 2016. كما ارتفعت قيمة أكثر عملة رقمية شهرة وهي «البيتكوين» بأكثر من 900%.ومع الارتفاعات الكبيرة تأتي انخفاضات كبيرة أيضاً، حيث شهدت العملات الرقمية المشفرة انخفاضا حاداً في قيمتها في أوائل عام 2018 بسبب تردد الهيئات الحاكمة في تقنين هذه الصناعة، وكنتيجة أيضاً لقيام «فيسبوك» و«تويتر» بحظر كل الإعلانات عن العملات الرقمية المشفرة.وفي يونيو (حزيران) الماضي، تم اختراق عملة «كوينتريل» الرقمية المستخدمة في كوريا الجنوبية، مما أدى إلى انخفاض حاد في الأسعار. وتعني الصعوبات التي تنشأ عن عدم الاستقرار، مثل عدم وجود ثقة من جانب تجار التجزئة والشركات، أن العملات الرقمية المشفرة ستظل استثمارات مثيرة لكن لا يمكنها أن تتحول إلى دخل مادي قابل للتصرف في كثير من الحالات.ومن خلال تنظيم هذه الصناعة، يحاول جبل طارق تحقيق الشفافية والشرعية المطلوبة لتداول هذه العملة الرقمية المشفرة. ويقول دانا، المولود في إيطاليا، إن العمل على تحقيق الشفافية كان أحد أسباب تداول العملة الرقمية المشفرة في نادي جيبرالتار يونايتد، مشيراً إلى أن طبيعة الوصول السهل إلى الـ«بلوكتشين» قد يقلل من فضائح الفساد التي عصفت بعالم كرة القدم. وقد ساعد ذلك هذا النادي الصغير على إيجاد حل لدفع المقابل المادي للاعبين الأجانب الذين لا يستطيعون بسهولة فتح حسابات مصرفية في جبل طارق.ويقول دانا إن جبل طارق يوفر بيئة مثالية في هذه الصناعة، مضيفاً: «لقد كان هذا هو أول مكان ينظم شركات المراهنة منذ 20 عاماً، عندما كان الجميع يتعامل مع الأمر على أنه شيء مروع. لقد وضعوا قواعد للامتثال ومكافحة غسل الأموال وأنشأوا منصة -ولديهم الذكاء لفعل الشيء نفسه مع العملات الرقمية المشفرة».وفي الحقيقة، تبدو المقارنة مثيرة للاهتمام، لأنه سواء اتفقنا أو اختلفنا على المراهنات، فإنها أصبحت سمة مميزة من سمات كرة القدم وتوفر للأندية الملايين من إيرادات الإعلانات، ويكفي أن نعرف أنه خلال آخر موسم كان رعاة تسعة أندية بالدوري الإنجليزي الممتاز من شركات المراهنات.وفي يناير الماضي، أصبح آرسنال أول نادٍ كبير يوقّع عقد رعاية من إحدى شركات العملات الرقمية المشفرة، عندما وقّع عقدا مع شركة «كاشبيت».وبعيداً عن العديد من المزايا الأخرى مثل الالتزام ووضع حد لدفع الأموال من تحت الطاولة، فإن عمليات تداول العملات الرقمية المشفرة تكون خالية من الرسوم أو الضرائب وتكون فورية. وتقول بورصة لندن لكرة القدم إن هذه التكاليف المنخفضة توفر فرصة لتفاعل الجمهور بطرق جديدة.وأبرمت بورصة لندن لكرة القدم اتفاقيات مع نادي باري الإيطالي ونادي ألكوبينداس الإسباني تهدف إلى تخفيض أسعار التذاكر والبضائع وتتيح للمشجعين فرصة شراء الأسهم في الأندية، وكل ذلك باستخدام العملة الرقمية المشفرة، وهو ما يعني اشتراك الجمهور في عمليات تداول العملة الرقمية المشفرة.ولا تختلف العملات الرقمية المشفرة كثيراً عن ثقافة «الثراء السريع» في كرة القدم، لأنها تجعل من بعض المستثمرين العاديين المحظوظين أصحاب ملايين الجنيهات بين عشية وضحاها. وقد دخل عدد من لاعبي كرة القدم السابقين والحاليين في هذا المجال، مثل ليونيل ميسي ومايكل أوين وروبرتو كارلوس ولويس فيغو، والذين يفتخرون بعقد شراكات مع مؤسسات تعمل في مجال العملات الرقمية المشفرة.وأصبح من الواضح أن بقية عالم كرة القدم قد بدأ ينتبه إلى هذا الأمر، في ظل وجود أندية صغيرة تقود الطريق. وفي يناير الماضي، أصبح نادي هارونوستاسبور التركي للهواة أول نادٍ يتعاقد مع لاعب باستخدام العملة الرقمية المشفرة، حيث دفع عملة البيتكوين بقيمة تصل إلى نحو 385 جنيهاً إسترلينياً، بالإضافة إلى 4500 ليرة (470 جنيهاً إسترلينياً) للتعاقد مع اللاعب عمر فاروق كيروغلو. وعلى الرغم من أنها لا تزال خطوة صغيرة، فإنها تشير إلى إمكانية الاعتماد على العملة الرقمية المشفرة بصورة أكبر.وقد تعني التقلبات الكبيرة في الـ«بلوكتشين» أن الأندية الكبرى سترفض المغامرة أو ستخاف من تشويه سمعتها. وفي مارس (آذار) الماضي، فشل مالك نادي ميلان في ذلك الوقت في محاولاته لاستخدام عملة البيتكوين في تسديد جزء قدره 10 ملايين يورو من القرض الذي حصل عليه لشراء النادي، وهو ما يُظهر القيود المفروضة على العملات الرقمية المشفرة عندما يتعلق الأمر بالأعمال التجارية الكبيرة في كرة القدم.من جهة أخرى، يمكن أن تحقق العملات الرقمية المشفرة نفس التحول الذي حدث لشركات المراهنات وتصبح سمة مميزة من سمات كرة القدم العالمية. وقد أظهر نادي جيبرالتار يونايتد، من خلال العمل في البيئة المناسبة وبالقيادة الصحيحة، أن كرة القدم قد بدأت في التحوط ضد رهاناتها.
مشاركة :