كل عام ومع اقتراب موسم الحج لا يغيب عن أذهان كبار السن في المملكة مشهد أول حجة، حيث الغربة عن الأهل، ومدة السفر، ووعورة الطريق، والاختلاط مع حجاج آخرين لا يعرفون سبيلهم، ولا يتقنون لهجتهم، ولا كيف مأكلهم ومشربهم، ليعودوا إلى أهلهم وأوطانهم مُحملين بالهدايا والأجر، والذاكرة «المذهولة» من هول المنظر. ولا تكتمل تلك المشاهد في أذهان جيل السيارة والطائرة والتقنية ومخيمات الخمس نجوم؛ إلا عندما يرويها العم «السبعيني» مبارك نايف المسعد، مستذكراً فواصل جميلة لزمن الطيبين. رعاية الغنم والإبل يقول العم مبارك ـ الذي تغطي عيناه طبقات الجلد وكأنها تكتب على جبينه عدد السنين ـ «أنا أختلف عن غيري من أقراني الذين تجمعني بهم رعاية الغنم والإبل، فقد كنت محظوظاً لأن والدي كان ينقل الحجاج بواسطة سيارة«البلاكاش» وقبلها على«ركاب الإبل»، فعندما كنت في الثامنة عشرة من عمري أخبرني والدي أن الحج على الأبواب، حيث أنهينا للتو شهر رمضان المبارك ونتلقى التهاني بعيد الفطر، وبدأ الناس يتوافدون على والدي للسلام وحجز مقعد في سيارة «الفرت» و«اللوري» حيث استطاع والدي وأعمامي الشراكة وشراء سيارات موديل 1940، ويسمي الناس آنذاك سيارة«الفرت» بـ«البلاكاش» لأن صاحبها يبني عليها خشبا، ويصنع منه دورين للأمتعة والركاب، بالإضافة إلى«السلّة» وهي منطقة في أعلى «الغمارة». الغمارة والسلة أضاف مبارك «كان والدي يُقسّم السيارة على ثلاث فئات كل فئة برسوم، حيث هناك «الغمارة» بجانب السائق، وهي بمثابة الدرجة الأولى في الطائرة حاليا!، وفيها يجلس الحاج على مرتبة إسفنجية ويستمع ربما للراديو أحيانا بحسب تشدد الركاب الديني ونظرتهم لمسألة تحليله من تحريمه، وقيمة «الغمارة» 12 ريالا، والركاب لا يتجاوزون خمسة أشخاص مع السائق، وأتذكر أن والدي سمح لي بمرافقتهم حينها وتأدية الحج لأول مرة وكان أبي هو السائق، وكنت أجلس بينه وبين الباب لنحافة جسمي!». وتابع أن «الموقع الثاني الذي يجلس فيه الحجاج هو «السلّة» وقيمتها 7 ريالات للشخص، ومن المميزات التي يتمتع بها الراكب فيها أنه يتمتع بمنظر السفر، وقلة الزحام، والهواء الطلق، وعدد ركاب السلة من الخمسة إلى السبعة بحسب وزن الجسم، ومن يرتبهم السائق و«المعاوني» وهو مساعد السائق، وفي الغالب يكون قريبه أو صديقه ويكون من أهل المعرفة والحل والعقد والحكمة، وأخيراً هناك حجاج الـ5 ريالات، وهم الذين يجلسون في «الصندوق» وسط الزحام والأمتعة، و«عزبة الطبخ»، وربما تكون معهم حيوانات وطيور لغرض الأكل، وعدد الركاب هنا من 20 إلى 30 بحسب مساحة السيارة المتبقية والأمتعة». طريق وعرة يضيف العم مبارك المسعد: أن «الحجاج ينطلقون قبل الحج بشهرين ناحية مكة المكرمة عبر الصحراء، وفي الطريق كان البعض يموتون بسبب المرض، ويتم دفن المرء في موقع وفاته ومتابعة المشوار، وكانت السيارات تغوص أحيانا في الرمال، ويبقى الحجاج يومين أو ثلاثة أيام وهم يحاولون إخراجها ومواصلة الطريق، وكان الناس يساعدون بعضهم، حيث يتوقف أهل الإبل المسافرين للحج لإنقاذ أصحاب «الفرت»، ويتبادلون معهم الأكل والشرب ويعالجون المرضى، ويصفون الطريق الوعرة للهرب منها». عودة منهكة يصف الشيخ مبارك كيف يؤدي الحجاج الركن الخامس من أركان الإسلام بجهل وبراءة، لأن غالبيتهم يسيرون خلف بعضهم بين المشاعر دون ترديد الأذكار أو إتمام الشعائر، وكان منظر العيد الأكبر لا يفارق مخيلته والناس يهبون لنحر«الهدي» وأكل جزء منها، ويقضون أيامهم الثلاث في مشعر منى بين الرمي والطبخ والشوي في الهواء الطلق، وفي بطون الأودية دون اكتراث بحرارة الشمس المرتفعة. ويصف العم مبارك رحلة العودة من الحج بعد إتمام النسك بـ«الأصعب» قائلا «بعد الفرح والحماس والتعاون الذي كان عليه الحجاج منذ شهرين تكون رحلة العودة منهكة، ولكنهم رغم ذلك يعودون محملين بالهدايا إلى أهاليهم، وفي الغالب لا تتجاوز الهدايا السبحة والمسواك والحلوى، غير أنها تصل للمستفيد الأخير مليئة بالأتربة نتيجة «التغريز» وسط الرمال، لأن السائق ـ في هذه الحالة ـ يجبرهم على إنزال جميع الأمتعة للمساعدة في دفع السيارة!». الفرح والبكاء يرى مبارك «أن لحظة الوصول للأهل والأولاد مليئة بالمشاعر المختلطة بين الفرح والبكاء، حيث يترقب الناس وصولهم، وتجري لهم ترتيبات وصول طريفة تتزاحم في لحظة اللقاء بهم أسئلة غريبة عن شكل الكعبة، وهل رأيتم «إبليس وأولاده»، ثم يتناول الجميع «المفطحات» ابتهاجا بوصولهم، وفي الغد ينخرط الحجاج بالعمل مع أهلهم في رعي الأغنام والإبل والزراعة غير آبهين برحلة الغفران التي استمرت أكثر من 80 يوما». الشوق إلى مكة نفس تلك الظروف والمعاناة عاشها سبعيني آخر هو العم محمد عقاب الراشد الذي لم يكتب له الحج سوى مرة واحده، إلا أنه لا يزال يتذكر تفاصيلها غير أنه لم يكن مطمئنا لكمالها بسبب ما أسماه بِـ«الجهل» في تعاليم الركن الخامس. يقول الراشد ـ وهو أب لـ 13 نفسا أدوا فريضتهم وشهدوا النقلة النوعية لخدمات الحرمين الشريفين ـ «كنت يتيما ومتيما بالذهاب للحج؛ ورَقّ قلب عمي على قلبي الذي يتفطر شوقا لمكة، وعزم على الحج مع أصحابه وأقاربنا وطلب من والدتي مرافقتهم، ووافقت والدتي على سفري معهم، وانطلقنا عبر 20 جملا وناقة؛ وكان عمي يمتطي صهوة الجمل وأنا رديفه، وغادرنا أطراف البلدة التي كنّا نسكنها وصوت بكاء والدتي لم يفارقني، غير أن فرحتها بإتمام نسكي كان البلسم على قلبها، وواصلنا طريقنا غرب القصيم نحو مكة ونحن مجموعة من الرجال، وكنت أصغرهم، وكلما أظلم الليل ترجلنا عن «المطايا» للراحة والنوم، ولأنني لم أنسَ وصية والدتي بخدمة الحجاج كنت أجمع الحطب وأوقد النار للطبخ». فرحة لا توصف تابع الراشد قائلا «أمضينا نحو 30 يوما في الطريق، وعند الوصول كانت فرحتي لا توصف، وكنت أظن الجمرات وعرفة داخل الحرم المكي..!، وبقينا هناك شهرا ونصف الشهر حتى أتممنا حجنا وعدنا إلى أهلنا واستقبلونا استقبالا حارا أنسانا مشقة العودة على ظهور الجمال». سيارة الفورت الأحمر يتذكر العم سعد مطر حجته الأولى برفقة والدته وفي حلقه غصّة، ومحاجر عيناه دموع تسقط دمعة دمعة كلما تذكّر سكرات الموت وهي تداهم والدته أثناء مسيرهم بين الجبال ناحية مكة. يقول مطر «كنت لا أتجاوز الخامسة عشرة من عمري عندما رافقت والدتي للحج، وغادرنا القصيم على سيارة تسمى الـ «الفورت الأحمر» بصحبة عدد من الرجال والنساء، وكنّا في الصندوق؛ النساء في المقدمة والرجال في الخلف، وشقينا طريقنا نسابق الزمن ونستبق عشرات الحجاج، منهم من يركب السيارات، ومنهم من يمتطي الإبل والحمير، وعندما وصلنا مشارف جبال مكة أحسّت والدتي بتعب شديد، وحاولنا إنقاذها ولم نكن نعرف ما أصابها، ونزل الحجاج في أحد الأودية والنساء يحلقن حولها، واستعنّا بالناس غير أننا لم نفلح في إيجاد سبب للشفاء، وبقينا في الموقع يوما كاملا، وفي المساء داهمها الأجل وتوفيت، وابيضّت عيناي من الحزن لفقد والدتي، وحملناها وأكملنا مسيرنا إلى مكة وهناك تم الصلاة عليها، وبقيت أتنقل بين الحجاج أبكي تارة وأدعو لأمي تارة ولم أحج، وعدنا وأنا في حالة صعبة، وأخبرنا أهلنا بوفاتها وتجدد البكاء والحزن، وبقيت أشهر عديدة على هذا الحال».
مشاركة :