قد يجد القارئ في السيرة الذاتية حلولاً جاهزة لبعض العقبات التي تواجهه، فالسير يكتبها أصحابها من أجل أن يستفيدَ الآخرون من تجاربهم. وفي هذا الصدد، تأتي سيرة عمار علي حسن، مكان وسط الزحام» (الدار المصرية اللبنانية) متضمنة تجربة ذاتية في عبور صعاب شتى، علماً أن صدورها يواكب تخطي صاحبها الخمسين من عمره للتو بما أنه مولود في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1967. والسيرة الذاتية هي «أن يكتب الشخص تاريخ حياته بنفسه»، وتعد أحد الأجناس الأدبية التي تتشابه مع «أدب الاعتراف» الذي أرساه جان جاك روسو في «الإنسان في أصدق صوره». وهي تقترب كذلك مِن أدب المذاكرات الذي يروي أحداثاً تدور في فترة زمنية معيّنة في شكل شامل ومتسع، وأكثر دقة زمنياً لأنها تكون قريبة جداً من الذاكرة. وهناك الرواية السيرية؛ وهي تمزج بين الواقعية والصدقية التي يحتمها أدب السيرة الذاتية، والخيال الذي هو إحدى دعائم الرواية. تقع سيرة عمار علي حسن في 385 صفحة من القطع المتوسط، وتحوي ثلاثة فصول، ويغلب عليها «الاستطراد»، وهو ضرب من البديع في البلاغة العربية أكثر مَن اشتُهر به الجاحظ، ويُقصد به أن يخرج المتكلم من الكلام الذي هو مسترسل فيه إلى غيره باستدعاء مناسبة، ثم يرجع إلى ما كان فيه. وينتج من هذا الاستطرد تداع في المعاني. فكثيراً ما تتجلى بين ثنايا «مكان وسط الزحام» هذه الخاصية، فحين يتناول حسن مثلاً إصراره وهو طفل صغير على الذهاب إلى المدرسة، جنباً إلى جنب مع العمل في الحقل، فإن هذه الجزئية تجلعه في أجزاء أخرى من السيرة يورد الكثير من الحكايات عن تمرده الإيجابي، مِن عدم تنفيذ رغبة والده في الالتحاق بمدرسة المعلمين، ومن ثم حين يحصل على الثانوية العامة يطلب منه والده أن يلتحق بجامعة المنيا القريبة من مسقط رأسه، في جنوب مصر، لكنه يختار جامعة القاهرة. وحين يتحدث عن «سور الأزبكية» الذي يشتهر ببيع الكتب القديمة وكيف استفاد منه في تكوين بنيانه الثقافي، يجره هذا إلى الحديث عن الكتب «المزوَّرة» التي تباع بأسعار زهيدة هناك، وهو ما يسبب مشكلات لدور النشر. وهناك أمثلة أخرى لا يتسع هذا المقال لسردها، لكن يمكن القول في هذا الصدد أن هذه الخاصية الاستطردية جعلت الزمن تابعاً للموضوع، فالسيرة وإن سارت ولو شكلياً بتناول حياة حسن من بداية مولده، إلا أنها سرعان ما تعود إلى طور الطفولة لتحكي موقفاً حدث خلاله. وفي الجزء الأول من السيرة الذي جاء بعنوان «طفل كبير»؛ يتناول حسن حياته الأولى، ويبدأ بالعلم والمدرسة لا بمولده الذي سيذكره لاحقاً؛ إيماناً منه بأن العلم هو الذي صنعه، وبه كان عكازاً لأبيه. ففي قرية الإسماعلية بمحافظة المنيا، ولد عمار علي حسن لأسرة فقيرة كبيرة، مكونة من خمسة إخوة وبنتين، وهنا نجده يرصد علاقته بأبيه، وبعالم القرية من عادات وتقاليد، وألعاب الصبية التي اختفت الآن بسبب طغيان التكنولوجيا، والأغاني، والسير الشعبية التي ساهمت في تكوين وجدانه، ومحبته للقراءة، حتى في أوقات العمل في الحقل مع والده، أو أثناء انتظار دور فريقه من الصبية في خوض مباراة لكرة القدم. وفي تلك السن المبكرة، عمل حسن أيضاً في بيع إنتاج الحقل في السوق، ثم عمل في مجال البناء. ذلك الطفل الكبير الذي كان شبه متوحد يعاني من عسر الكتابة غير متفوق في دراسته، يعاني من عقدة في اللسان؛ استطاع أن يتجاوز هذا كله ويصل إلى ما وصل إليه. وفي صيد الحكايات، يذكر حسن تاريخه في عالم الكتابة الذي دخله في البدء مِن عالم الشعر ثم القصة القصيرة، وهو الآن من أغزر الكتاب إنتاجاً في الأدب والكتابة في قضايا علم الاجتماع السياسي المستندة إلى دراسته الأكاديمية التي توّجها بالحصول على الدكتوراه في العلوم السياسية. ويعزو حسن عن سبب غزارة أعماله الإبداعية والنقدية والأكاديمية إلى موقفين، قائلاً: «في كل مرة أبدأ كتابة رواية جديدة يرد على ذهني شخصان، أبي في حقله، وسيدة الحافلة. الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهي الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقاً إلى البذور لينبت الزرع البهي. ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن العدم إلى الوجود، أو على الأقل من اليباب إلى العمار. أما السيدة فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة ركبتها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير، كنت طالب دراسات عليا أعد أطروحتي للماجستير، وقد جمعت مادتي العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابني كسل فقعدت أسابيع عن البدء في الكتابة، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطاً منسوجاً بإحكام». وذلك إضافة إلى تفرغه الكامل للكتابة واستقالته من عمله الصحافي في وكالة الشرق الأوسط من أجل إتمام مشروعه الإبداعي الطموح الذي يسير فيه بخطوات ثابتة، منذ حصوله على جائزة مسابقة «القصة القصيرة» التي نظمتها جريدة «أخبار الأدب» القاهرية عام 1994، مروراً بحصوله على جائزة التفوق في الآداب من المجلس الأعلى المصري للثقافة وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في القصة القصيرة. ويسطر حسن في الجزء الثالث حياته العلمية والعملية تحت عنوان «حفر في صخر»، باحثاً عن مكان في تلك المدينة المتوحشة (القاهرة)، مصراً على أنه لن يتركها... «لن أتركك أيتها المدينة حتى تعترفي بأن لي مكاناً في شوارعك الغريبة عني». إنها حكاية لا يعرفها إلا المغتربون... «قاسية هذه البلدة، التي لا يجد فيها مَن هو مثلي ما يقيم أوده». لكن عمار علي حسن خاض غمار حرب واجه فيها المدينة بصدر عار. سالَت دموعه مراراً، عانى الخيبات والآلم، لكنه لم ييأس. تحدى صعاباً، أوصلته في النهاية إلى أن يكون عمار علي حسن الذي ينهي سيرته، قائلاً: «ورغم كل ما جرى في نهر حياتي من مياه غزيرة، لا أزال أرى نفسي عامل التراحيل الذي عليه أن يكدح طويلاً حتى يحصل على القليل، ثم يحمد ربه عليه، رافضاً كل ما يأتيه بلا عرق أو كد، وزاهداً في ما هو بيد غيره، وساعياً، على قدر استطاعته، إلى أن يمشي على الأرض هوناً، لكن لخطوِه علامة، قد تكون كلمة كتبها وقرأها أحد الناس، فشحذت خياله وأمتعته وأفادته، وقد تكون مسرباً قد شقَّه قلمي الذي، لا حياة لي مِن دونه، في قلب صخرة صماء». عموماً، تكشف هذه السيرة عن معدن عمار علي حسن الأصيل والنفيس، فلم يغفل في سيرته عن ذكر الذين قدموا له العون في بداية حياته في القاهرة، أو في عالم القرية. في هذا العمل يبدو صاحب روايات «خبيئة العارف» و «شجرة العابد» و «سقوط الصمت»، و «السلفي»، وكتابي «عشتُ ما جرى: شهادة على ثورة يناير»، و «الخيال السياسي»، مولعاً بالثقافة الشعبية ومرجعاً في راهن الحركات الصوفية والسلفية وجماعات الإسلام السياسي، ومعتزاً بأصول ريفية طالما خرج منها عظماء. وهو في هذه السيرة يسجل مواقفه السياسية بمنتهى الوضوح، ويقدم حلولاً لكثير من المشكلات التي تواجه الساحة المصرية والعربية. كما تتضمن تلك السيرة المرشحة للنمو في أعمال تالية، الكثير من الحكايات المضحكة والمواقف المبهجة والمبكية أحياناً أخرى، وقصص حب لم تكتمل، وحياة أسرية متناغمة، وأشياء كثيرة عن طفل اجتاز الطريق الصعب، وحفر اسمه بين أعلام مصر المعاصرة.
مشاركة :