«الدورة الحضارية» عند مالك بن نبي

  • 8/10/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

د. الطيب بوعزة حرص ابن نبي على وضع مشروعه تحت عنوان جامع هو «مشكلات الحضارة»، وتلك العنونة الكلية لكتبه دالة على أن انشغاله الفكري كان مركزاً على هاجس إشكالي يطلب فهم كيف تبدأ الحضارة وتولد، وكيف تصير وتزول، ثم كيف يمكن استعادتها بعد الزوال؟ وجواباً عن هذا الاستفهام المركزي الحاضر في مختلف كتاباته، نرى ابن نبي يؤكد مرارا على أن الحضارة لها منطق في التطور يسير بها في سياق دورة تاريخية تَمُرُّ عبر أطوار، كما لو أنها كائن حي له عوامل ميلاد، وقوانين نمو، ولحظة موات وأفول حتمية. وبين البدء والنهاية ثمة مرحلة وسيطة. وبذلك تكون مراحل الدورة الحضارية ثلاثة أطوار، كل طور منها يشهد سيطرة محدد أو ناظم معين: فالطور الأول تسوده سيطرة الروح بفعل نفوذ الفكرة الدينية، والثاني يشهد سيطرة العقل، بينما تسود الثالثَ سيطرةُ الغريزة.ويكشف الطور الأول عن أن الحضارة لا تولد إلا بوجود الدين، الذي يقوم بجمع وتفعيل عناصر الاجتماع. وتقديمه للفكرة الدينية بوصفها المُرَكِّبَ Catalyseur الذي يقوم بالجمع والتفعيل، وهي نظرية كان قد أشار إليها لأول مرة في الطبعة الأولى من كتابه «شروط النهضة» مضمنة في فصله المعنون «من التكديس إلى البناء»، ولما أثارت النظرية اهتماما وتساؤلات من القراء، أضاف إلى الكتاب في طبعته الثانية فصلاً خاصاً بها عنونه ب«أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة». وضرورة الدين لتوثيق الشبكة الاجتماعية وتفعيل عناصرها لتحقيق ميلاد الحضارة، فكرة استمدها ابن نبي من مرجعيات معرفية متعددة، منها ما هو من التراث الثقافي الإسلامي(ابن خلدون)، ومنها ما هو مستمد من التراث الثقافي الغربي (كيسرلنج، وهنري بيرن...). إذ معلوم أن ابن خلدون كان قد فسر في مقدمة «كتاب العبر» قيام «الدول» بوجود عصبية وعقيدة تجمع الأفراد، فاستعمل الفكرة في تفسير قيام وانحلال التشكيلات السياسية في الغرب الإسلامي، أي أن التطبيق الخلدوني لدور الفكرة الدينية كان قاصرا على مفهوم الدولة، ولم يُجاوزه إلى مفهوم الحضارة. بينما يرى ابن نبي وجوب التوسيع من تطبيقات الفكرة الخلدونية، لتصير نظرية في الحضارة لا نظرية سياسية مقصورة على تفسير تداول الدول. ويبدو هذا التوسيع آتياً من استفادته من نظرية الألماني «كيسرلنج» والمؤرخ «هنري بيرين» في بيان دور المسيحية في تكوين الحضارة الغربية. لكن ابن نبي لما أقام هذا التوسيع النظري واستفاض في الاستدلال عليه، استشعر اعتراضا على فكرة حتمية حضور الدين لتولد الحضارة، اعتراضا يجسده قيام الناتج الحضاري في الاتحاد السوفييتي، الذي كان يقدم ذاته كنموذج ينفي دور الفكرة الدينية بإطلاق. وجواباً عن هذا الاعتراض يقول في «شروط النهضة» (ص54): «ولقد يثير هذا التأكيد سؤالاً في أذهان القراء عما يسمى (حضارة شيوعية) إذ لا يمكننا أن نرى فيها (طابع الروح) الذي عرفناه في الدورة العامة للحضارة، وبهذا يقال: إن الشيوعية كحضارة ليست منبثقة عن (عامل الروح)». فسارع إلى رد هذا الاعتراض موضحا أن: «... هناك شيوعية واقعية، هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوى الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور، أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات... فنحن لا يمكننا أن نفكر في المثل الذي ضربه (استخانوف) للطبقة العاملة في روسيا إبان تنفيذ المشروع الأول للسنوات الخمس، حين رُفع مستوى الإنتاج اليومي إلى الضعف في مناجم الفحم من دون أن نفكر في المثل الذي ضربه سلمان الفارسي، الذي كان يقوم بأضعاف العمل الذي يؤديه الصحابي الواحد في حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، أو الذي ضربه عمار بن ياسر حين كان يحمل حجرين على كاهله في بناء مسجد المدينة، حيث كان الفرد يحمل حجرا واحدا. ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة».إذاً إن مبتدأ الحضارة هو ظهور فكرة دينية تقوم بوظيفة توثيق وتفعيل عناصر الاجتماع وتركيب الشبكة الاجتماعية. أما عن ماهية تلك العناصر؛ فنستبينها من تحليله للمجتمع، حيث يرى أنه يتكون من ثلاثة مكونات هي: «الأشخاص» و«الأفكار» و«الأشياء». واصطلاح مالك بن نبي بلفظ الأشخاص يدل على حرصه على استعمال الاصطلاح المتداول في علم النفس الاجتماعي، الذي يفيد نقلة من مرحلة الكائن البيولوجي (الفرد) إلى الكائن الثقافي (الشخص). وعملية الانتقال هذه تقوم بها التنشئة الاجتماعية التي تهدف إلى استبطان الأفراد لثقافة المحيط المجتمعي الذي يعيشون فيه.

مشاركة :