إيران: بين سندان المظاهرات ومطرقة العقوبات

  • 8/10/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

دفعة أولى من العقوبات الأمريكية على إيران دخلت حيز التنفيذ، والهدف هو ممارسة ضغط اقتصادي على طهران لتغيير سلوكها المزعزع لاستقرار المنطقة وكبح نشاطاتها النووية غير السلمية. الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» لم يغلق باب التفاوض تماماً، بل أبقى عليه مرفقاً ذلك بتحذير جديد لإيران، فبحسب قوله: «على النظام الإيراني الاختيار، إما أن يغير سلوكه المزعزع للاستقرار ويندمج مجدداً في الاقتصاد العالمي، وإما أن يمضي قدماً في مسار من العزلة الاقتصادية». إيران وكعادتها ذهبت إلى شن حرب كلامية ضد الولايات المتحدة، فتكاثرت التصريحات العدائية والتهديدات لواشنطن ولكل من يساعدها على لسان مختلف المسؤولين الإيرانيين، لكن المعضلة الكبرى التي بات نظام الملالي يواجهها أن الشعب الإيراني لم يعد يلتفت كثيراً لتلك التصريحات، إذ لم تعد ذات جدوى في تطمينه وتسكينه ولو إلى حين، كما أن العقوبات الخارجية في طريقها للزيادة، حيث سيتم تطبيق حزمة جديدة من العقوبات في نوفمبر المقبل. الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية على طهران تستهدف المعاملات المالية وواردات المواد الأولية، إضافة إلى قطاعي السيارات والطيران التجاري، وهي حزمة مؤلمة جداً للاقتصاد الإيراني وتمثل شبه قطيعة بين إيران والنظام المالي العالمي المستند إلى الدولار الأمريكي، وبموجب العقوبات أيضاً فلن يتمكن النظام الإيراني من الاعتماد على عملته المحلية المنهارة بالأساس في إنجاز أي معاملات مالية وتجارية، وكذلك حظر تجارة الذهب والمعادن الثمينة، والمواد الخام والمعادن مثل الألمنيوم والحديد والفحم وكذلك البرمجيات المستخدمة في العمليات الصناعية، كما تطال أيضاً الحسابات البنكية التي تحتفظ بمبالغ كبيرة من الريال خارج إيران، وهذا كله سيكون له مردود مباشر على المؤشرات الاقتصادية لإيران، وسيدفعها إلى مستوى سلبي غير مسبوق، كما ستتراجع وتيرة مؤشر النمو في السنوات المقبلة، خاصةً في ظل مشكلات الفساد والمنظومة المصرفية الفوضوية والبطالة المتفاقمة التي تعاني منها إيران. بعد وقت قصير من إعادة فرض العقوبات، هدد الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بعقوبات قاسية كل من يتعامل تجارياً مع إيران، وقال ترامب في تغريدة له على تويتر إن «الولايات المتحدة لن تتعامل تجارياً مع كل من يجري معاملات تجارية مع إيران.. أطلب السلام العالمي، لا أقل من ذلك»، معتبراً أن العقوبات على النظام الإيراني الذي يعاني من مشكلات اقتصادية وانهيار في العملة «هي الأشد على الإطلاق»، مؤكداً على أن نوفمبر المقبل سيشهد الدفعة الثانية من العقوبات على إيران، والتي ستوجه نحو قطاعي النفط والغاز إضافة إلى البنك المركزي الإيراني، وهي بلا شك ستكون أكثر ألماً من الدفعة الأولى، بل ستكون كارثية لأنها تمس قطاع التجارة النفطية في بلد يعتمد اقتصاده بشكل واسع على قطاع تصدير النفط، من جهته فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو» بأن العقوبات الجديدة تمثل «جزءاً مهماً من جهودنا للتصدي للنشاط الإيراني الخبيث»، وسبق وأن حدد بومبيو في 21 مايو الماضي شروط واشنطن التي تتجاوز الاتفاق النووي لتنسحب على برنامج إيران للصواريخ الباليستية وتدخل طهران في شؤون المنطقة بما في ذلك تهديد أمن الحلفاء، جديرٌ بالذكر أن العقوبات على إيران قد رُفِعَت سابقاً على إثر توقيع الاتفاق بشأن ملف طهران النووي عام 2015م مع الدول الست الكبرى، قبل أن ينسحب منه الرئيس ترامب في مايو الماضي. العقوبات الجديدة ستؤثر بشدة على جوانب حياة الإيرانيين، ولن يقتصر ضررها على الشق الاقتصادي المتعثر فحسب، بل سيصل مداها على الأرجح إلى الجانب الاجتماعي، وهو الذي يتوجس منه نظام الملالي، إذ إن تردي الأوضاع الاقتصادية سيفاقم الغضب الشعبي وسيؤجج المظاهرات بسبب ارتفاع معدلات التضخم وغلاء المعيشة، حينها سيصب الشارع الإيراني جام غضبه على قياداته وسيحملهم مسؤولية الفشل السياسي والعزلة الاقتصادية، وخلال الأيام الماضية قام الإيرانيون بادخار دولارات وجمع المؤن وتحويل أموالهم إلى مقتنيات ذهبية، خوفاً من تدهور أوضاعهم أكثر خاصةً في ظل انهيار العملة الوطنية، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب والعملات الأجنبية بشكل جنوني، ما أثر على الأسعار كلها تقريباً في الأسواق الإيرانية، وهو ما دفع الحكومة الإيرانية إلى تخفيف القيود المفروضة على صرف الريال الإيراني، فيما أوقف عدد من المسؤولين بينهم مساعد محافظ البنك المركزي لشؤون العملات الصعبة «أحمد عراقجي» لاتهامهم بتهم فساد. لكن حتى قبل فرض العقوبات الأمريكية الأخيرة، فإن التظاهرات الداخلية كانت تمتد شرارتها يوماً بعد يوم وتتسع رقعتها الجغرافية في الداخل الإيراني، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وفي إشارة تظهر مدى غضب المتظاهرين من أي رمز من رموز نظام الملالي، والذي أدت سياسته إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية، فقد هاجم متظاهرون حوزة شيعية في غرب العاصمة طهران. كما هتف المتظاهرون بعبارات تندد برجال الدين والنظام الحاكم الذي يلقون عليه اللوم ويتهمونه بسوء الإدارة والفساد والنفاق، وهي سوابق لم تشهدها إيران من قبل، حتى أن الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد كتب تغريدة على حسابه الخاص في تويتر دعا فيها الرئيس ترامب إلى نشر أسماء الإيرانيين القريبين من النظام الذين يحملون «بطاقة خضراء» للإقامة في الولايات المتحدة والذين لديهم حسابات خاصة في بنوك أمريكية. وبعيداً عن إيران التي تحاول امتصاص صدمة الحزمة الأولى من العقوبات، فإن المجتمع الدولي يراقب بحذر واهتمام التداعيات التي ستتركها هذه الدفعة من العقوبات، خاصةً أن ثمة دفعة جديدة تلوح في الأفق وستطبق في موعد ليس ببعيد، وقد أكد مصدر مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية أن أكثر من 100 شركة عالمية وافقت على مغادرة السوق الإيرانية مع بدء سريان العقوبات الأمريكية، ولم يكشف المصدر عن أسماء الشركات، لكن محللين قد أكدوا أن تسارع وتيرة امتثال الشركات من جميع أنحاء العالم للعقوبات الأمريكية هو أمر مرجح، خاصةً عندما يتحتم عليها الاختيار بين مواصلة تعاملاتها مع الاقتصاد الأمريكي العملاق والمنفتح والاقتصاد الإيراني المتعثر والمليء بالمصاعب والمعوقات. أحدث المنضمين إلى ركب الشركات المغادرة للسوق الإيرانية كانت مجموعة دايملر الألمانية لصناعة السيارات، والتي أعلنت وقف أنشطتها التجارية في إيران، وقالت متحدثة باسم المجموعة «علقنا أنشطتنا المحدودة أصلًا في إيران امتثالًا للعقوبات المطبقة»، لتنهي بذلك اتفاق التعاون الذي وقعته مع شركتين إيرانيتين لتجميع شاحنات مرسيدس بنز، وسبق وأعلنت مجموعة «بيجو ستروين» الفرنسية، وهي أكبر متعامل مع قطاع السيارات الإيراني، عن إيقاف مشروع كبير لإنتاج السيارات في إيران بالتعاون مع شركات إيرانية. هذا بخلاف الشركات التي انسحبت مبكراً، مثل توتال الفرنسية، ومجموعة إيرباص، وسيمنز الألمانية، وشركات الشحن الكبرى مثل ميرسك تانكرز، إضافة إلى جميع شركات المصافي الأوروبية، ولم يقتصر الأمر على الشركات الأوروبية، بل انسحبت شركات الطاقة في كوريا الجنوبية وأوقفت شراء النفط الإيراني منذ الشهر الماضي، وكذلك فعلت شركة برتامينا الإندونيسية للطاقة، في حين أعلنت أكبر شركة هندية لتكرير النفط، شركة ريلاينس، أنها ستوقف تعاملاتها مع النفط الإيراني، وأكدت أنها حريصة على تعاملاتها الواسعة مع الولايات المتحدة، كما قلصت شركة التكرير الهندية نايارا إنرجي، أحد أكبر مشتري النفط الإيراني، وارداتها تمهيداً لإيقافها خشية تعرضها لعقوبات أمريكية، أما الشركات اليابانية فقد جدولت إيقاف شراء النفط الإيراني بحلول أكتوبر المقبل في أقصى تقدير، إذا لم تحصل على إعفاء من واشنطن. موقف الاتحاد الأوروبي قد يبدو هشاً، حتى وإن حاول الأوروبيون أن يتمسكوا بالاتفاق النووي مع إيران، والعمل على حماية الجهات الاقتصادية الأوروبية الناشطة في إيران بفضل قانون التعطيل، وهو القانون الذي أطلقته المفوضية الأوروبية، من أجل الحد من تأثير العقوبات على الشركات الأوروبية التي تريد الاستثمار في أي بلد، وقد تم إقراره عام 1996م للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على كوبا وليبيا وإيران، ويسمح بحماية الشركات الأوروبية من العقوبات التي يتخذها بلد ثالث، حيث يحظر على المؤسسات الأوروبية الامتثال للعقوبات الدولية، تحت طائلة التعرض لعقوبات يحددها كل بلد عضو، كما يسمح لهذه المؤسسات بالحصول على تعويضات لأي ضرر ينجم عن هذه العقوبات من الشخص المعنوي أو المادي المسبب له، كما يلغي القانون آثار أي قرار قانوني أجنبي يستند إلى هذه العقوبات في الاتحاد الأوروبي، وقد يخدم هذا القانون الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر من نظيرتها الكبرى، فبالنسبة للأخيرة يمر الحل عبر التفاوض للحصول على إعفاءات واستثناءات مع الولايات المتحدة، لكن واقع انسحاب الشركات الأوروبية من السوق الإيراني يؤكد عدم قدرة حكومات الاتحاد على إقناع الشركات بمواصلة العمل مع إيران، لدرجة أن بنك الاستثمار الأوروبي أصدر بياناً أكد فيه أنه لن يستطيع مواصلة التعامل مع إيران على الرغم من أنه الذراع الاستثمارية للمفوضية الأوروبية، وربما تكون التصريحات الأوروبية من باب حفظ ماء الوجه فقط بعدما أكد كبار المسؤولين يأسهم من إمكانية استمرار تعامل شركات بلدانهم مع إيران، إذا كان على الشركات أن تفاضل بين السوق الإيرانية والأمريكية. وزير الاقتصاد الفرنسي «برونو لومير» أقر بأن الشركات الفرنسية لن تتمكن من البقاء في السوق الإيرانية، كما أكد وزير الخارجية الألماني «هايكو ماس» أن أوروبا لم يسبق لها أن تمكنت من حماية شركاتها من العقوبات الأمريكية. في حين أعلن رئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» حول إمكانية استخدام قانون التعطيل للحد من تأثير العقوبات الأمريكية أن «الوسائل متوافرة، وعلينا ألا نخدع أنفسنا أنها محدودة». لا شك أنَّ إيران ستبحث عن المُتناقضات العالمية، في محاولة للالتفاف على العقوبات الأخيرة، لكن خيارات إيران هذه المرة لن تكون كسابقاتها، فإذا وصلت العقوبات إلى إمدادات النفط، فسيؤدي ذلك لا محالة إلى انهيار الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من أزمات خانقة، رغم تصدير 2.6 مليون برميل يومياً، وقد تعلل إيران نفسها بصعوبة تعويض إمداداتها من النفط من قبل المنتجين الآخرين، وتتوقع أن تضطر واشنطن إلى منح بعض الدول إعفاءات من العقوبات، مثلما كان عليه الحال في العقوبات السابقة، لكن بيانات منتجي النفط تظهر أنه يمكنهم ببساطة تعويض الإمدادات الإيرانية في السوق العالمية من خلال تعليق الالتزام باتفاق خفض الإنتاج، حيث تملك دول كثيرة طاقة إنتاج إضافية، وخاصة السعودية وروسيا والعراق والإمارات والكويت. وقد تلجأ إيران إلى حلفائها من القوى الكبرى، مثل الصين أو روسيا، لكن حتى تلك القوى تكتوي بلهيب العقوبات والرسوم الأمريكية المفروضة عليها حديثاً، وربما تلجأ إيران إلى خلاياها الإرهابية وأذنابها الطائفية في المنطقة لتأجيج الوضع الأمني الإقليمي، لكن حتى هذا الخيار ليس سهلاً تماماً، فالقوى الكبرى لن تسمح بذلك. وخير دليل على ذلك تصريح كبير المتحدثين باسم القوات المسلحة الإيرانية، العميد أبوالفضل شكارجي، الذي قال إنه «لا يحق لأحد الحديث عن أمن الخليج ومضيق هرمز سوي إيران، لأنّها هي وحدها الكفيلة بأمنهما»، وهو ما رد عليه مستشار الأمن القومي الأمريكي «جون بولتون»، بالقول إن إيران «تطلق تهديدات جوفاء بإغلاق مضيق هرمز، وإذا فعلت ذلك فسيكون أكبر خطأ ترتكبه طهران».

مشاركة :