الموقف الكندي المعلن برفض الاعتذار للسعودية على التدخل في شأنها الداخلي، لا يعكس كلّ الحقيقة، فخلف خطاب حكومة ترودو الموجّه أساسا للاستهلاك الداخلي، تختفي مساع عملية لتطويق الأزمة والحدّ من خسائرها باستدراج وساطات إقليمية ودولية، وحتى باستدعاء خبرات سابقة لدول عاشت نفس التجربة مع المملكة. أوتاوا - يسود شعور عام في كندا بأن حكومة الليبرالي جاستن ترودو ارتكبت خطأ بتفجيرها أزمة دبلوماسية مجانية وغير مبرّرة مع المملكة العربية السعودية، لا يمكن أن تأتي من ورائها سوى الخسائر السياسية، وخصوصا الاقتصادية في ظرف عالمي دقيق تتضح فيه ملامح الحروب التجارية ويشتدّ فيه الصراع والتنافس على الأسواق والشراكات والفرص الاستثمارية. وعكس الإعلام الكندي وتصريحات السياسيين والدبلوماسيين هذا الشعور الذي قد يكون شمل حكومة ترودو نفسها بعد أن لمست صرامة السعودية في الردّ عليها، ودَفَعها للبحث عن قنوات جانبية للخروج من الأزمة، والحدّ من تداعياتها بأقلّ ما يمكن من الخسائر. ونقلت وكالة فرانس برس عن مصدر في الحكومة الكندية قوله إنّ أوتاوا تعمل بهدوء عبر قنوات خلفيّة، للحصول على مساعدة حلفائها وبينهم ألمانيا والسويد من أجل حلّ الأزمة غير المسبوقة في علاقاتها مع السعودية. وبعد انتقادات كندية لوضع حقوق الإنسان في السعودية أكّدت الرياض أنّها مبنية على معلومات مغلوطة معتبرة أنّها تشكّل تدخّلا سافرا في الشأن الداخلي للمملكة، بادرت الحكومة السعودية إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات السريعة والمتلاحقة ضدّ أوتاوا بدءا بطرد سفيرها في الرياض وصولا إلى وقف التعاون الاقتصادي والتجاري والتعليمي معها، مرورا بنقل المرضى السعوديين من المستشفيات الكندية. وشكّل كل ذلك مفاجآت غير سارّة لحكومة ترودو التي تخشى على ضياع مصالح اقتصادية مع السعودية قد تشمل مبلغ 13 مليار دولار قيمة صفقة سلاح كندي للسعودية، إضافة إلى مبادلات تجارية متنامية بلغ مقدارها السنوي حوالي 4 مليارات دولار. وقال مسؤول كندي وصفته الوكالة الفرنسية بـ”البارز″ دون الكشف عن هويته إنّ وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند تحدثت مع نظيريها في الدولتين الأوروبيتين. وكانت السعودية قد تعاملت في وقت سابق مع ألمانيا والسويد بصرامة بعد تطرّق مسؤولين في البلدين إلى الشأن الداخلي للمملكة، لكنّ برلين وستوكهولم سارعتا لتصحيح الوضع وإعادة العلاقات مع السعودية إلى سالف طبيعتها. ديفيد تشاترسون: الدبلوماسية الكندية فشلت.. حولنا أنظارنا عن الدفاع عن مصالح كنداديفيد تشاترسون: الدبلوماسية الكندية فشلت.. حولنا أنظارنا عن الدفاع عن مصالح كندا وسعت فريلاند إلى معرفة كيف حلّ هذان البلدان خلافهما مع السعودية وطلبت منهما الدعم، بحسب المسؤول ذاته. وجاء ذلك بعد أن خطّطت أوتاوا للاتصال بالإمارات العربية المتحدة وبريطانيا اللتين تربطهما علاقات وثيقة بالسعودية. غير أنّ الرياض سارعت لقطع طريق الوساطة الذي رغبت الحكومة الكندية في اتباعه لحلّ الأزمة مع السعودية، وحمّلت أوتاوا مسؤولية تصحيح الموقف المجاني الذي اتّخذته بتدخلها في الشأن الداخلي السعودي. وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إنه “لا حاجة لوجود وساطة” في الخلاف الدبلوماسي المتصاعد مع كندا، وإن على أوتاوا “تصحيح ما قامت به تجاه المملكة”، وذلك في إشارة ضمنية إلى وجوب اعتذار الحكومة الكندية على موقفها من السعودية. ورفض ترودو الاعتذار، لكن بعض المعارضين لموقفه قالوا إن رفضه ليس سوى خطاب موجه للاستهلاك المحلّي. ويقول مراقبون إن كندا بهجومها المفاجئ على السعودية ربما كانت تسعى لتحقيق مكسب معنوي صغير بتسويق نفسها ضمن كبار المدافعين العالميين عن حقوق الإنسان والقيم الليبرالية في العالم دون أي أضرار جانبية، لكن النتائج جاءت على عكس المتوقّع تماما. ويعكس خطاب بعض السياسيين الكنديين الشعور بأنّ حكومة بلدهم ارتكبت خطأ دبلوماسيا فادحا بالتدخّل في الشأن الداخلي السعودي. وقال السفير الكندي السابق لدى السعودية، ديفيد تشاترسون، إن الدبلوماسية الكندية فشلت، مضيفا لقد “حولنا أنظارنا عن هدف الدفاع عن مصالح كندا”. وتساءل “هل كان المطلوب التأثير على التوجه العام للمملكة العربية السعودية، لا أعتقد أننا حققنا ذلك.. هل دافعنا عن المصالح الكندية”، مجيبا “لا.. إنه فشل تام”. وفي ذات سياق الانتقادات الداخلية لتصرّف حكومة ترودو تجاه السعودية نصح وزير الدولة الكندي السابق جون بايرد رئيس وزراء بلاده بالتوجه إلى الرياض ومقابلة المسؤولين هناك لنزع فتيل الأزمة بين البلدين. وقال في مقابلة أجراها مع قناة بلومبيرغ “عندما توقّع صفقة أسلحة فإنك تتوقّع على الأقل الشكر”. وأضاف “يتوجب علينا الوقوف إلى جانب صديق وحليف مثل السعودية، فلديهم تهديدات من تنظيم داعش إلى جانب إيران التي تواجهها المملكة في اليمن”. وتابع الوزير الكندي السابق قوله “نحن نختلف حول بعض القيم مع السعودية، ولكن لا يوجد شك بأن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان يأخذ البلاد صوب الاتجاه الصحيح، بتبنّيه إصلاحات ضخمة”، ليختم بالقول “المطلوب حقا هو أن يستقل ترودو طائرته إلى الرياض ويحاول حل هذه المسألة وهذا في صالح كندا والعمال الكنديين”.
مشاركة :