على خط الحديد الذي تحدّه مشاهد خلابة لا نهاية لها وينطلق كشريان نحو قلب إمبراطورية الإنكا الجبلية، لا تبدو لافتة الكيلومتر الـ104 مميزة. لم تُقم حتى محطة عند هذه اللافتة. وقفنا في خندق وانتظرنا 30 ثانية تقريباً قبل أن يمرّ أمامنا القطار. وكما فعلنا خلال اليومين اللذين أمضيناهما بالتنقل في أحد المواقع التاريخية الأكثر تصويراً في العالم، ماتشو بيتشو، قفزنا عندما أمرنا دليلنا سيباستيان بذلك، وهو اكتسب ثقتنا عند محطة القطار المنعزلة تلك. قادنا دليلنا سيباستيان الذي يتحدّر من شعب الكيشوان عبر دروب إلى جسر يهتزّ مع كل خطوة فوق نهر أوروبامبا، حيث بلغنا درب الإنكا وأولى الآثار في ذلك اليوم: تشاتشابامبا، معبد ماء محفور في سفح تلة. عند هذا المعبد، جلس دليلنا القصير القامة بوجهه المبتسم مع مجموعة من خمسة متجولين وأدلى باعتراف أولي قربه منا أكثر. تبين أن سيباستيان ليس صادقاً تماماً. فقد أخبرنا: «50 % فقط مما سأرويه لكم صحيح». أوضح سيباستيان السبب: رغم الشهرة والأهمية التاريخية وبرامج {ناشيونال جيوغرافيك} التلفزيونية الخاصة، لا تزال وجهتنا الأخيرة ماتشو بيتشو وآثار الإنكا المحيطة بها تخضعان للدرس وتفوقان النظريات التي تدور حولها الوقائع المثبتة عدداً. لم تكتشف Northern Hemisphere آثار قمة الجبل حتى عام 1911. كذلك لم تتحوّل ميتشو بيتشو إلى مقصد سياحي بارز إلى أن أدرجتها اليونسكو على لائحتها للتراث العالمي عام 1983. تبدو ماتشو بيتشو مذهلة في صورها كافة، إلا أنك تجهل المسافة الكبيرة والشاهقة التي تفصلها عن مباني المعابد المتدرجة والأسوار الحجرية في الأودية تحتها. ولا تعرف على الأرجح أن ضوء الشمس في أعلى الجبل يبدّل على ما يبدو أبعاد ماتشو بيتشو كل نصف ساعة تقريباً. كذلك تجهل أن الجبال المحيطة بها تحتضنها كأشقاء أكبر سناً يحاولون حمايتها (وهذا ما أنقذها من الإسبان). {تهانيّ! لقد نجحتم}، تفوه سيباستيان بهذه العبارة بحماسة بعدما دخلنا أخيراً ما افترض بصواب أنه إحدى الوجهات التي نود زيارتها جميعنا قبل موتنا. أضاف بحذر: {تهانيّ لأنكم لم تصلوا إلى هنا بالطريقة الكسولة}. معمعة من التفاصيل أبصرنا أول مرة تلك المدينة المقدسة القديمة، التي بُنيت عندما كانت إمبراطورية الإنكا في ذروتها نحو منتصف القرن الخامس عشر، قرابة المساء بعد سبع ساعات من نزولنا من القطار. خلال تلك الساعات، رحنا نسير صعودا، وصعوداً، وصعوداً. لم يتخطَ دربنا العشرة كيلومترات. لكنه كان شديد الانحدار وبالغ الصعوبة بالنسبة إلى مَن لم يعتد منا السير على ارتفاع 2743 متراً حيث تقبع ماتشو بيتشو. وكانت أنفاسنا شبه مقطوعة عندما أبصرت أعيننا الجائزة أول مرة. تُعتبر هذه الطريقة الجديدة لزيارة تلك الآثار الشهيرة حلاً وسطاً: اخترنا رحلة السير هذه التي تدوم يومين بدل أن ننطلق في رحلة التخييم التقليدية التي تدوم أربعة أيام على درب الإنكا لأننا لم نملك الوقت الكافي لها. كذلك لم نشأ أن نستقل الحافلة في رحلة تستمر 25 دقيقة من محطة القطار في بلدة أغواس كالينتيس السياحية المجاورة لأنها بدت أشبه برحلة في أحد متنزهات عالم ديزني. بدأت حكومة بيرو تُصدر التراخيص لهذه الرحلة، التي تدوم يومين، السنة الماضية لتشكّل جزءاً من نظام معقد من نقاط الدخول الموقوتة والمتطلبات الجديدة بغية تفادي الاكتظاظ. كذلك تفرض قاعدة جديدة على كل زائر الاستعانة بدليل محترف. باختصار، بات التخطيط المسبق مطلباً ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى لزيارة ماتشو بيتشو. لم تستغرق رحلة سفرنا من مينيابوليس إلى عاصمة بيرو الساحلية ليما أكثر من نصف يوم، ثم استقللنا طائرة أخرى في رحلة على متن خطوط محلية دامت 90 دقيقة حملتنا فوق جبال الأنديز إلى كوزكو، تلك المدينة التاريخية النشيطة في الجبال التي شكّلت إحدى أبرز المفاجآت السارة في رحلتنا. قضينا يوماً ونصف اليوم في كوزكو. ويعود ذلك في جزء منه إلى محاولتنا اعتياد هذا الارتفاع قبل سلوكنا درب الإنكا. وفي كوزكو، تعرفنا أيضاً إلى مطبخ بيرو الذي لم يحظَ دوماً بإعجابنا. هل تبحثون عن طبق لذيذ؟ ضاهى طبق من لحم الألبكة المقلي في أحد المقاهي اللطيفة في الساحة الرئيسة رائحة الحظيرة بمذاقه. إلا أننا تناولنا أولى أطباقنا الكثيرة اللذيذة من السيفيتشيه والأخطبوط في مطعم {مورينا} الفاخر. في الصباح التالي، غادرنا كوزكو متجهين إلى أولانتايتامبو في رحلة مخيفة ومثيرة للحماسة في حافلة صغيرة سلكت درباً جبلياً مليئاً بالالتفافات والتعرجات. قد تكون القيادة في بيرو الرياضة الأكثر خطورة. ومن الحكمة أن تبقى بعيداً عن الطرقات قدر الإمكان. لا يُعتبر شعب بيرو ودوداً فحسب، بل عاطفياً أيضاً. أما المشاهد الطبيعية التي حدت طريقنا، فاستحقت بضع مئات من صور الهاتف الخلوي حتى قبل أن نتوغل عميقاً في جبال الأنديز. ولما كنا قررنا الاستعانة بخدمات الرحلات المنظمة، فوفرنا على أنفسنا مشقة ترتيب التفاصيل التي كانت ستدفعنا إلى الجنون. عندما بلغنا أخيراً درب الإنكا، تركنا التفاصيل كافة لسيباستيان. أبقانا دليلنا الجدير بالثقة وفق الجدول المحدد كي نبلغ ماتشو بيتشو في الوقت المناسب لنستمتع بنور الشمس الغني بعد الظهر. وعلى الدرب، اصطحبنا أيضاً في جولة إلى مجموعة من الآثار المبنية بإتقان على جرف حاد: ويناي واينا التي تبدو بين آثار الإنكا أشبه بسكوتي بيبن إزاء مايكل جوردن {ماتشو بيتشو} المهيمن. بدا سيباستيان متفانياً جداً في الصباح التالي حين اصطحبنا في جولة شخصية عن كثب دامت ساعتين ونصف الساعة بين الآثار. بعدما أمضينا الليل في أغواس كالينتيس، أقنعنا سيباستيان بالنهوض في الرابعة صباحاً لنستقل أولى الحافلات المتوجهة إلى الجبل. وهكذا وصلنا في الوقت المحدد لافتتاح القلعة في السادسة صباحاً. لكن الأهم من ذلك أننا حظينا ببضع ساعات من الهدوء في الموقع قبل وصول الحشود الكبيرة القادمة بالقطار. تجتاحك لمسة روحانية أو كونية فيما تتنقل في أرجاء ماتشو بيتشو، خصوصاً في الصباح حين يروح الضباب الذي يلفها يتحرك ببطء كاشفاً مشهداً جديداً كل 20 ثانية تقريباً. عندما انتهينا من الإصغاء إلى تفاصيل سيباستيان المعمّقة عن بنى الموقع الرئيس المختلقة، من الغرفة المصممة بإبداع لمراقبة النجوم إلى المنزل الذي اعتاد ملك الإنكا النزول فيه مرة في السنة، ما عدنا نكترث لعبارته الأولى عن أن نصف ما سيخبرنا به صحيح فحسب. فقد كانت رحلتنا في ماتشو بيتشو في نهايتها مثالية بكل معنى الكلمة بغض النظر عن القصة الحقيقية.
مشاركة :