تنشغل سينما الخيال العلمي بموضوع مألوف لطالما تمت معالجته بأشكال وأساليب متنوعة، وهو وقوع الكوارث بشتى أنواعها كالحروب والاختلالات المناخية وغيرها، ففي قسم من ذلك النوع الفيلمي يجري تتبع الكارثة بتفاصيلها وكيف ضربت أوجه الحياة البشرية وآثارها التدميرية اللاحقة، لكن ثمة معالجات أخرى تشتغل على ثيمة ما بعد الكارثة، وكيف أصبح شكل الحياة وسيرة الشخصيات تحت وطأة تلك الظروف المستجدة؟ يعالج الفيلم الجديد “مكان صامت” للمخرج جون كراسينسكي -وهو نفسه الممثل الرئيسي والمشارك في كتابة السيناريو- بشكل درامي أجواء ما بعد وقوع الكارثة على كوكب الأرض، مع أنها كارثة غير معلومة تفصيليا، لكننا معنيون بتوابعها. الكون الصامت أو الأخرس هو الذي آلت إليه الأمور، فقد ظهرت كائنات فتاكة على درجة عالية من التطور في حاسة السمع، حتى أنها تسمع أبسط الأصوات الصادرة عن البشر، ولهذا يتحوّل الجميع إلى لغة الإشارات. النموذج الذي أمامنا هو أسرة صغيرة ستعيش تحت وطأة ذلك الرعب، لكن الضحية الأولى هو طفلها الصغير الذي سيطلق صوت لعبته لتذهب حياته سدى في لحظة خاطفة. وهكذا تستمر حياة تلك الأسرة في حالة من الرعب المتواصل، وبين الحين والآخر يجري الفتك بأشخاص أخطأوا فأطلقوا كلمة أو صوتا. وخلال ذلك كله، يسعى لي (جون كراسينسكي الممثل والمخرج نفسه) لأنْ يجلب إلى أسرته ما يديم حياتها من طعام، لكن ما لم يكن في الحسبان أن تبدأ أعراض الولادة لدى الزوجة إيفلين (الممثلة إيميلي بلونت) وخلال ذلك المخاض العسير تنزل إلى القبو، لكنها تحدث صوتا فيدخل فورا ذلك الكائن الوحشي، وحتى عند ولادة الطفل سيكون من العسير إسكات صرخاته فيلجأ الزوج إلى سد فمه بكمّام ويضعه في مهد مغلق. مشاهد الترقب وحبس الأنفاس لا تكاد تنتهي والخيال لدى فريق كتاب السيناريو ذهب بعيدا في المزج بين الخيال العلمي وبين الرعب. ويتطور ذلك لاحقا من خلال عجز الأب عن اللحاق بزوجته لإنقاذها هي ووليدها، وكذلك إنقاذ طفليه الآخرين اللذين يتقدّم نحوهما الوحش، فيضطر إلى أن يضحّي بنفسه ليصرفه عنهما، عندما يطلق صرخة تنتهي بها حياته. سقوط الشقيقين ريكان وماركوس في صومعة لخزن الحبوب، هو مشهد آخر من مشاهد الكارثة، فالطفلان مهددان إما بالغرق تحت أطنان الحبوب وإما بأن يصبحا فريستين للوحش. مشاهد أخرى تم صنعها ببراعة كمشهد مخاض الزوجة ثم تفاعل الأب مع أصوات المياه المتدفقة، وإطلاقه أصواتا على أساس أن تلك الكائنات الوحشية لا تسمع الذبذبات الواطئة. اهتم العديد من النقاد بهذا الفيلم وأشادوا ببراعة القصة والسيناريو والإخراج، ومن ذلك مقالات نشرت في “الغارديان” البريطانية وفي مجلة “فيرايتي” وفي صحف ومجلات سينمائية أخرى. وقدّم الفيلم براعة ملفتة للنظر على صعيد أداء الشخصيات ابتداءً من المخرج – الممثل الرئيسي، وأيضا الزوجة وصولا إلى الطفلين المبدعين اللذين جسّدا أجواء الرعب والهلع بشكل مميز. الابنة ريكان (الممثلة ميليسنت سيموندز) هي صماء بكماء منذ الولادة، وهي تختزن مشاعر متناقضة بين إحساسها بكره والدها لها كونها كانت سببا في موت شقيقها الصغير، ثم اكتشافها حبه لها في المشاهد الأخيرة قبل هلاكه، هنا يتم بث حبكات ثانوية يكون لها دور في قيادة الدراما بعد موت الأب. ولعل الحبكة الثانوية التي قلبت المسار الدرامي وصعدت الأحداث هي اكتشاف الفتاة المختبر الصغير لوالدها في قبو تحت الأرض يجري فيه تحريات عن الخواص السمعية لتلك الكائنات وسعيه لصنع جهاز يساعد ابنته على السماع. لكن مصدر المفاجأة هو أن ذلك الجهاز البسيط لتقوية السمع يبث ذبذبات تكون قادرة على شل حركة ذلك الكائن الوحشي، ولهذا تنجح في استدراج الوحوش تباعا والقضاء عليها. ومن الملفت للنظر خلال ذلك إظهار الشخصيات وكأنها تعيش في عالم خال من البشر الآخرين، فضلا عن انقطاع وسائل الاتصال ممّا يجعل الجميع يعيشون في بيئة معزولة تماما. هذه العزلة عمّقتها جسامة الخطر المحدق بالجميع، الأمر الذي تطوّر إلى نوع من الذكاء الميداني كإشعال المصابيح الحمراء للتحذير من هجمات الكائنات الوحشية. وعلى صعيد البناء المكاني حفل الفيلم بتنوع ملفت للنظر في أماكن وأوقات وزوايا التصوير ما بين المنزل والقبو، وأيضا الغابات والبحيرات والشلالات، وفي أثناء ذلك كانت الشخصيات مجبرة على الصمت واستخدام الإشارات. وانطبق على الفيلم عنوان “مكان صامت”، إذ أن الصخب المعتاد قد أُخرس تحت وطأة الرعب من الظهور المباغت للكائنات الوحشية. وحفل الفيلم بخطوط سردية متعددة ارتكزت على فكرة الصراع من أجل البقاء بما تعنيه من سباق مع الزمن لحفظ الحياة في ظل واقع ديستوبي مقفل ومجهول الأسباب. في المقابل كان من المهم شحن الصورة بما يكفي من تفاصيل غزيرة واستخدام زوايا وأوقات تصوير متنوعة، وذلك تعويضا عن تعطيل الحوار وإيقاف خط الصوت وهو ما نجح المخرج في تداركه، وقدّم صورة سينمائية متقنة وبليغة عوّضت عن الكثير من الحوارات.
مشاركة :