في قلب المعركة الجديدة - القديمة حول جدل ملف الحريات والمساواة في تونس والذي أثاره مؤخرا تقرير أعدته لجنة تم تشكيلها بإذن من الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي بغرض تعزيز بنود أهداف دستور الجمهورية الثانية المدني والمصادق عليه في عام 2014، تُواصل بعض الأطراف السياسية كالإسلاميين أو حتى من وسط العائلة الحداثية والتقدّمية التبجح بفكرة أن الوقت غير مناسب لطرح مثل هذه الملفات المجتمعية والحال أن البلاد غارقة في مستنقعات صعوبات اقتصادية واجتماعية جمّة قد تؤدي بها إلى المجهول. ورغم أن مسائل مثل الحرية أو المساواة أو حقوق الإنسان في مفاهيمها الكونية والطبيعية هي غير مضبوطة بأي وقت أو إطار زماني أو مكاني أي بمعنى أنه لا يمكن افتكاك كل هذه المصطلحات الفطرية غير المكتسبة على جرعات لأن المرء إما أن يكون حرا وإما لا يكون مثلما يؤصّل ذلك الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، فإن ما يثير الانتباه في تونس أن بعض الأحزاب المدنية المتبنية لأدبيات فكرية ليبرالية أو يسارية انساقت بدورها وراء خطابات الإسلاميين -الذين يدّعون اعتناقهم المدنية- الطارحة لمسألة ما ورد من إجراءات ثورية تضمنها تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بمنطق ما زال الوقت باكرا للخوض مثلا في مسألة المساواة بين المرأة والرجل. ومن الطرافة أن بعض الأحزاب التي تدّعي التقدّمية في تونس والمتشدّقة أيضا بتبني كل رؤى وتصورات الدولة الوطنية الحديثة، ساهمت بشكل أو بآخر في حشد شريحة واسعة من المجتمع التونسي لرفض كل مقرّرات تقرير الحريات عبر وضع إصبعها لأغراض سياسية وانتخابية على أزمتي البلاد الاقتصادية والاجتماعية أو عبر لعبها ورقة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لكن هذه المرة في ثنايا أخرى تخدم أجنداتها المرتبكة والمتوجسة من الاصطدام برفض شعبي للتقرير المتهم من قبل الإسلاميين بالارتداد على القرآن والشريعة. وممّا يؤكّد عدم نضج الأحزاب التونسية الحداثية وارتعاش أياديها لدى طرح ملف الحريات أن بعضها بات يستند -على سبيل المثال- لإقناع عموم المواطنين بأن الوقت لا يسمح بذلك على مقولات من قبيل “الخبز قبل الحريات” أو أن الظرفية لا تسمح بالغوص في نسج مجتمع يطالب بالحرية والرفاه الاقتصادي بصفة متوازية، مراهنة على ذلك بالارتكاز على أطروحات تاريخية لا يمكن تنزيلها على واقع تونس ما بعد ثورة يناير 2011. وفي الوقت الذي تتلذّذ فيه الأطراف الإسلامية، أطروحات الرافضين لتقرير الحريات والمساواة، يُواصل الحداثيون الإبحار في ظلمات الانفصام عبر تقديمهم ذرائع من قبيل أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (أول رئيس لتونس بعد الاستعمار ومن مؤسسي قانون الأحوال الشخصية) كان من أشد المعارضين في عام 1928 لخطاب ألقته المناضلة والحقوقية التونسية حبيبة المنشاري أمام جموع مسلمة وأوروبية وطالبت فيه بوجوب المساواة بين الجنسين وبترك الحجاب وبتمكين المرأة التونسية من كل أشكال الحرية. ويرتكز أصحاب هذا الطرح المنافي لواقع تونس اليوم على حجة أن بورقيبة -وهو أحد رموز ودعاة المساواة في البلاد العربية في عصره- أدرك أن ذلك الوقت الذي كانت فيه البلاد مستعمرة غير مناسب لطرح مثل تلك القضايا النسوية التحررّية. وبعيدا عن معارك توظيف ساسة البلاد يمينا ويسارا لمسألة الحريات والمساواة لغايات سياسية ضيّقة، فإن تسليط الضوء على مواقف عموم التونسيين بمختلف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية بات يوحي أيضا بأن الأغلبية قد انخرطت إما في رفض مبادئ الحرية والمساواة على شاكلة ما طرحه التقرير رفضا قاطعا وإما في تبنّي فكرة أن الوقت لا يسمح بذلك في ظلّ تأزم الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية. ويبقى هذا المطبّ المجتمعي الأخير بدوره، رهينة لتوجّهات الأحزاب السياسية التي لم تُفلح في تهيئة الأرضية الفكرية اللاّزمة لتجهيز المجتمع التونسي وجعله حاضرا لتقبّل كل إجراءات تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة إما بسبب عدم قدرتها وإما بسبب عدم رغبتها في تنزيل الملف من النخبة إلى النسيج المجتمعي عبر تنظيم ندوات وطنية يناقش فيها الجميع كل المقترحات لتجنّب كل محاولات التشويه والأدلجة التي كانت في معظمها مزوّقة بخطابات دينية حاولت مرة أخرى “النطق باسم الله” من خلال اتهام ما ورد في التقرير بأنه ارتداد على القرآن والشريعة والموروث الإسلامي.
مشاركة :