أكثر من مئة وأربعين لوحة انطباعية تتجاور في صالات «القصر الصغير» بحيّ الشانزليزيه في باريس. لوحات لم نكن نعرف أغلبها، والأهم أنّ أصحابها انتقلوا خلال حرب 1870 من باريس التي حلّت فيها الفوضى بســــبب انتفاضة «كومونة باريس» إلى العاصمة البريطانية لندن. يقع تاريخ اللوحات المعروضة خلال القرن التاسع عشر، ما بين التاريخ المذكور 1870 وعودة الفنانين الانطباعيين إلى الضفة الفرنسية من بحر المانش عام 1904. كلود مونيه كان يتردد في نهاية القرن التاسع عشر على لندن ليتأمل الأعمال الغمامية السديمية ذات الرفيف اللوني الضبابي الخاص بالمعلّم «تورنير». عرفنا للمرة الأولى تأثيرات هذا المعلم الإنكليزي الأكبر في منطلقات مونيه، رأس الانطباعيّة الفرنسية، بخاصة في لوحة «انطباع انعكاس الشمس» التي اشتُّقَ منها اسم المدرسة والتيار المرتبط جذرياً ورمزياً - حتى لا نقول قومياً - بالثقافة التشكيلية لعاصمة الفن والتنوير، باريس. هي الإشارة الوحيدة التي تكشف نفي الاحتكار الفرنسي لنشأة هذا التيار. ثم تكشفنا تأثير المدرسة الإسبانية من خلال إدوار مانيه، ثم الشمالية وهكذا. كان هناك إخفاء مقصود للتراشح اللندني - الباريسي خلال أكثر من قرن من تاريخ بوابة الحداثة والمعاصرة. لذلك، فإنّ فضل الخروج عن التخفي والصمت النقدي المكابر بادر إليه الطرف الإنكليزي في معرض نظير، أقيم العام الفائت في «تات غاليري» - لندن، وهو يعالج الموضوع ذاته «هجرة الانطباعية خلال القرن التاسع عشر». علينا تصحيح الصورة التنافسية الثابتة تاريخياً بين الثقافتين والبلدين من مثل حرب المئة عام، وحرق جان دارك التي يتمسّك بعصبيتها اليمين المتطرف. فإذا عبرنا إلى تفاصيل انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى كشف حوارات تشرشل مع شارل دو غول، عثرنا على رغبة الإنكليز في إعلان الوحدة بين إنكلترة وفرنسا (خلال حكم بيتان والسيطرة الألمانية)، نجد أن دو غول لم يكن متحمّساً إلى هذه الوحدة لأنها - في رأيه - ستكون واقعياً نوعاً من الانتداب البريطاني على فرنسا. ينقلب الأمر اليوم مع الاتحاد الأوروبي والتحالف الفرنسي - الألماني وخروج إنكلترا من شراكة «الأورو». لا يجمعها دفاعياً سوى حلف الناتو، والذي لم يمنع المنافسات الاقتصادية الحادة الجديدة التي زعزعت قوانين المبادلات الحرة بفرض سباق الرسوم الجمركية. يبدو أن السياسة والاقتصاد يُشاركان النقد في كتابة تاريخ الفن منذ القرن التاسع عشر، بخاصة الفن المعاصر، أي ما بعد الحرب العالمية الثانية. يثبت المعرض أن هذه الهجرة كانت شاملة، تتجاوز حدود زيارات كلود مونيه المعروفة أو رودان الأقل وضوحاً. فالتوقيعات على اللوحات تشير إلى رواد معروفين بمستوى كاميبيسارو ودو بيني وجيمس تيسو وجول دالو (النحات) وتأثرهم جميعاً بالمناخ الضبابي للندن، ولمنتجعاتها الرحبة، مثل تصوير مونيه متنزه «هايدبارك» ومثل لوحة «القراءة في المتنزه» لجيمس تيسو، أو لوحته الشهيرة عن بناء دار البرلمان، وانعكاسه في نهر التايمز ناهيك بالتأثير المباشر الإنكليزي لمحفورات وطباعات ألفونس لوغرو. أما إقامة محترفاتهم فلم تكن معزولة عن التعاطف والدعم الفني المحلي، بالتالي المعاشرة والاحتكاك وتبادل الحوارات المخصبة وزيارات المحترفات من الطرفين، خلال لقاءات المعارض والمقاهي والمتاحف وسواها. يرسّخ معرض لندن العام الفائت والمعرض الراهن الباريسي شراكة جديدة في تيار الانطباعية الفرنسية - الإنكليزية من خلال التعرّف إلى فنانين انطباعيين إنكليز كانوا بحكم الكتمان والتجاهل. ولم يكن في الإمكان إقامة المعرض الراهن من دون الاستعانة والإستعارة من المجموعات البريطانية ثم الأميركية، ثم وبدرجة ثالثة مجموعة «متحف ديجون» الفرنسي المعروف بتمايزه، بخاصة أنه يملك مجموعة تحت هذا المسمى أو العنوان المشترك الفرنسي - الإنكليزي. لاشك في أن المعارض البانورامية في السنوات الأخيرة - خصوصاً بعد إنشاء الاتحاد الأوروبي - صحّحت الكثير من مفاهيم الاحتكار القومي للتيارات الفنية والتسليم بشمولية الفن المعاصر إلى درجة أن المشاهد الحيادي أصبح يتقبّل شراكة بعض فناني السويد والشمال والروس للتيارات الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر. من المعروف أن الانطباعيين تجمّعوا على شروط فيزيائية لونية ثابتة، متأثرة بتجارب «التزامن اللوني» لدى علماء مثل شيفرول وروود في الفيزياء الضوئية. والمقصود هنا الانعكاسات والتبادلات اللونية التوليفية لأشعة الشمس في الفضاء أو الحيّز الطبيعي (مشاهد الهواء الطلق والخروج من عتمة المحترفات التقليدية)، بالتالي لا يوجد لون معزول عن بقية ألوان الموشور القزحي الطبيعي، أي أن التوليف اللوني يجري على شبكية العين من دون الحاجة إلى خلط درجاته كيميائياً على صفيحة الألوان (الباليتا). فالمتغيّر في حالة المعرض هنا هو المناخ الجغرافي بخصائصه البخارية أو الرطوبة الضبابية في لندن، ومحاولة التقاط خصائص هذا الرفيف المكاني الجغرافي المغاير للمشاهد الفرنسية ما بين الهافر ومتوسطية إكس أن بروفانس ومدن الجنوب ومرافئه. تحملنا مجموعة اللوحات المعروضة بالنتيجة ضمن رحلة جغرافية مثيرة، من ضباب باريس إلى ضباب لندن وهكذا.
مشاركة :