لا أدري كيف اتفق كل من إدارد سعيد ونلسون مانديلا والكاتبة اللاتينية الأمريكية إيزبيل الليندي على كتابة الجروح التالية: «ليس أشد بأساً على الكتابة من التعامل مع الكتابة كخواطر عائمة إلا التعامل مع الكتابة كبيانات مقفلة, وليس أمقت بدل التعامل مع الكتابة كشعلة للتعلم والمعرفة، التعامل مع الكتابة كولعة نار للتعمية والتضليل, وليس اقذع بدل التعامل مع الكتابة كهواية حرة، التعامل مع الكتابة كمهنة تِكسر, وليس أكثر لبساً بدل التعامل مع الكتابة كحالة براءة، التعامل مع الكتابة كتهمة». وأضيف… «ليس أخطر على الكاتب من الكتابة إلا أن يتوسل بها تحويل نفسه إلى أجير عند من يظنهم سُراة أو إلى بطل عند من يظنهم سفحاً» رحلت فاطمة المرنيسي إلا أنها بقيت على أجنحة الحلم وذهب عبدالعزيز المشري إلا أنه يقي في الوسمية وغادر غازي القصيبي إلا أنه بقي في شقة الحرية وفي حريات أخرى ونامت الشاعرة الأمريكية مايا أنجيلو نومتها الأخيرة إلا أن الطائر الحبيس بقي يغرد وفي هذا السياق العام عن عضال الكتابة وشفاءها، عن نورها ونارها، عن ظلمها وعدلها وعن ماءها وعطشها, أرى أنه كما يصح قول إنه ليس هناك أوجع للكاتب من الكتابة إلا عدم الكتابة, فبالنسبة لي يصح أيضاً قول ليس هناك أوجع من عدم الكتابة إلا الكتابة. فالكتابة عشق ومن أهم شروط العشق الإخلاص والخيانة معاً. وفي هذا تتعدد متطلبات الإخلاص. فهناك الإخلاص للضمير بتخير موضوعها شكلاً ومضموناً, والإخلاص للمجتمع القارىء ولوكان قارئاً واحداً، والإخلاص للذات الكاتبة على بقية الذوات التي لا يعدم الكاتب الحق من محاولات تدخلاتها أو محاولاتها للتأثير على قلمه، والإخلاص لشغف الكتابة الذي لاتستحق الكتابة أن تسمى كتابة بدون إكسيره, والإخلاص للكتابة نفسها الذي لا يتم بدون الإخلاص في ترقب اقترابها وفي تلمس إيحاءتها والبحث عن إلهامها, هذا بالإضافة إلى الإخلاص للكتابة لحظة الكتابة نفسها بالجهد وبالوقت. فلا نقرب الكتابة إلا ونحن على أهبة الاستعداد للصرف المسرف من أجمل ساعات العمر وكأنها الساعة الأخيرة على كل قطرة حبر نسكبها على الورق أو نقضيها أمام الشاشة. ولا نقرب الكتابة إلا ونحن بكامل اللياقة الذهنية والنفسية والجسدية والروحية. ونجد عدداً كبيراً من أشكال محاولة الإخلاص للكتابة وعذاباتها في سيرة عدد من الكتاب الكبار والصغار أيضاً تاريخياً وحاضراً. فمن أولئك الكُتاب من لا يكتب إلا إذا أرهفه الجوع ومنهم من لا يكتب إلا إذا شقق شفاهه الظمأ ومنهم من لا يكتب إلا إذا جرح أقدامه الركض، ومنهم من لا يكتب إلا بعد أن يغتسل ويتطيب ومنهم من لا يكتب إلا في جنح الليل ومنهم لايكتب إلا مع فلقة الفجر أو في حموة الضحى أو على شفير الغروب. ومنهم من يعيش ليكتب كغارسيا ماركيز جبريل في سره الذي لم يكشف عنه إلا قبل رحيله بقليل عبر مذكراته «عشت لأروي»، ومنهم من مات قبل أجله لو لم يتعرف على سحر الكتابة. هناك كتاب حررتهم الكتابة من ظلمة السجن ورطوبته وعزلته الباهظة كما فعلت الكتابة بانطونيا جرامشي ومنهم من كتب الله لها بالكتابة عمراً جديداً كإملي برونتي، ومنهم من كاد بالكتابة لحتمية الفناء المبكر كزانتزاكي ومايكوفسكي ودستوفسكس وكافكا ومنهم من قاوم بالكتابة ليغير أقداراً بأقدار. أما شرط الخيانة في عشق الكتابة، فإنه لا يقل قسوة عن شروط الإخلاص فهناك شرط الخيانة في الكتابة لما سبق أن كتبه الآخرون وهناك شرط الخيانة لخيالنا السابق، فعشق الكتابة لا يتحمل أخيلة مستعملة أو مستعارة أو مسروقة، وهناك شرط خيانة الذاكرة في عشق الكتابة فلا ندخلها بخيبة الهيبات ولا بخبرات النجاح أو الفشل السابقة للحظة الكتابة الحاضرة. هناك أيضاً شرط خيانة التكرار والإجترار والخوف الغريزي والمكتسب من عواقب الكتابة. إلا أننا للوفاء بشروط الإخلاص والخيانة معا في عشق الكتابة لسنا إلا ريشة في مهب القلق تتعلق برفة الأمل في أحشاء غيوب الغد. ———————————————————– دكتورة فوزية ابو خالد الجزيرة
مشاركة :