إذا كان كثير من المتلقين يحتفون بالشاعر (جاسم الصحيح) شاعراً غزلياً، فإني أسير في طريق آخر، حيث أراه شاعر الحياة، فمنها يتخلق شعره: لا شعر لي.. كل ما في الأمر أن فمي ما انفك يأنس شيئاً فيه يحترق هنا الحياة دعتني فاستجبت لها كما استجاب إلى أحلامه النزق وهو أيضاً شاعر الإنسان، شاعر المعنى.. شاعر الرؤية العميقة التي تنسلُ إلى عمق الكائنات، لتزيل عنها ركام العادية، وتمنحها حياة أخرى، وتقفز بها إلى محيط الدهشة، لتجعلنا واقفين أمامها متأملين، نعيد التفكير فكرة تلو الأخرى. وبهذه المناسبة، فإن له قصيدة عنوانها: الشاعر المتشجر بالكائنات، بكل مايعنيه هذا من التصاق الذات الشاعرية بمفردات الكون، رغماً عن عزلته: مُتشجر بالكائنات .. وإن نأى في عزلة خضراء من (طوباه) حتى يقول في خاتمة مشعة، تجمع أنا الشاعر والوجود في ثنائية واحدة لا تنفصل: سفر يطول، وحيث عرّى كونه في القافيات، وكونه عرّاه ألفى أناه تدور حول وجوده ورأى الوجود يدور حول أناه ورغم أن الحب عنصر مكين وثيق في شعره، فإنه ليس الغاية غالباً، ويبدو أن الشاعر لايخلص لهذا الموضوع نصوصه كاملة، فمنه يتسلل إلى عمق الرؤى، إلى جوهر الحياة، يطرقها متفكراً متسائلاً. وهل الشعر إلا أسئلة معتقة؟! ففي نصّه (دعوة للغرق)، على سبيل المثال، يبدأ بهذا الاستهلال المضيء: لي في الحب نية مشكاة حين أنويه تشرق النيات أتجلّى كأنما وضأتني بزلال من ضوئها النجمات إلا أن شاعر الحياة يتجاوز مشكاة الحب سريعاً، ليدخل في مشكاة أخرى، في عمق الحياة، في عمق الإنسان، في عمق حزنه: نحن أشهى من أن نجيء ونمضي لم تذقنا ولم نذقها الحياة كائنات مؤقتون.. ويكفي ألماً أن تؤقت الكائنات حزننا كالمعلقات طويل حيث أعمارنا طلول موات ليجعلنا نتملى في أنفسنا ونتساءل: هل نحن كائنات مؤقتة حقاً؟ ولا غرابة في هذا، فهو الشاعر المهموم بتأويل الحياة: عييت بتأويل الحياة وسرها عيائي بتأويل العيون المبرقعة والحق أن من مصلحة الشعر الجميل ألا يصل صاحبه لتأويل، لتستمر دهشة السؤال... ولتنبثق جماليات الحيرة، ومفارقات الوجود.. ولنستمتع - نحن المتلقين- بكل تلك الحمولات الدلالية المدهشة. وتقابلنا هذه العبارة في مقدمة نصه (الحب عزف مثنى):(كلما التقى عاشقان على كرسي خشبي، احتفلت الشجرة بانتصارها على الفأس)، في عنوان جانبي يجاور عنوان النص الأصلي. وغير خاف قدرة عتبات النصوص الشعرية على الإيحاء برؤى النصوص، وحوارها معها، وخلق أجواء من التحفز والإثارة قبل التعمق فيها. إن هذه العبارة تنبثق من المعنى العميق، المنسلّ من لحظات العاطفة، المؤول للصراع بين مفردات الكون، بين الشجرة والفأس. يوقظها الشاعر، لتشارك العشاق التجربة. ويتخلّق المعنى الذي يرتقي من ضيق أفق قصائد الغزل إلى أفق إنساني أكثر رحابة.. فالشجرة لم تمت حين قطعها الفأس، بل انتصرت، وتفجرت فيها الحياة من جديد، حين غدت مأوى للأحبة. فالثنائية حاضرة في صورة الحب / العزف، والثنائية حاضرة أيضاً في الصراع بين الفأس والشجرة. بكل ما تحمله هاتان الثنائيتان من مفارقة. ويختم الشاعر هذا النص الطويل بالغ الرهافة، متوهج الوجد، بخاتمة وقور، يعود فيها للسؤال الأبدي الذي يحمله دوماً عن الحياة والإنسان: لا تسلميني إلى حلم يخاتلني فالحلم أول من خانوا ومن جحدوا روح الحقيقة نحياها مكابدة من فرط ما اتحد الإنسان والكَبد إن مس عينيّ من ذرّ المنى رمدٌ للقلب عينان لم يمسسهما رمد أشكو إلى كمد في الروح يأكلها من أين تؤكل هذي الروح ياكمد! وأجرد الحزن مني حين أكتبه أقسى من الموت حزن ليس ينجرد هكذا يرتقي بالتجربة العاطفية من مستواها الفردي إلى مستوى إنساني أكثر عمقاً ورحابة. وتبدأ قصيدة (ريح الكتابة.. ممحاة الضجر)، بهذه التساؤلات الملحة حول الزمان وأثره في الإنسان: ستون عاما ولما تبتدئ عمرك هل ثم قافية ترشو بها قدركْ؟! ويسير به تأمل العمر والزمان والسنين، إلى تأمل المعنى، والوجود،والبصيرة: تسير في رحلة المعنى تسير إلى بئر الوجود لكي ترمي بها حجركْ تسير دون دليل تستدل به لولا خطى هاجس للغيب قد نذركْ والوعي ما انفك عيناً فيك ثالثة حيث البصيرة فيها ضاعفت بصرك فهو يرى في هذه الستين عاماً رحلة نحو مدارج المعنى، ومفتاحاً للبصيرة في هذه الحياة. هو -إذن- شاعر الفكرة ..شاعر المعنى... بل إن هوية الشاعر – أي شاعر كما يرى في نصه:(الشاعر المتشجر بالكائنات )– تتمحور حول هذه الرؤية: البحث، والتساؤل، والتفكير المستمر: ماقال قط وجدتها وهو الذي نشر الوجود برأسه وطواه ................................ سفر يطول وشاعر مترحل لا يبتغي وطناً سوى معناه ماض يحرر بالنشيد زمانه كي يفتح المعنى إلى أقصاه كل هذه الرؤى تأتي في روح شديدة الشغف بالشعر، متماهية معه حدّ الهيام، وهذا يشكل موضوعاً آخر بالغ الأهمية عند جاسم الصحيح، هذا الشعر الذي نرى له سلطة عظيمة عليه، يؤثر فيه، ويتخلق من خلاله. لنتأمل الشعر هنا علاجاً، وباباً مفتوحاً دوماً نحو الأفق، نحو العالم: فكم دخلت ببيت الشعر في قلق وكم خرجت وزال الهم والقلق لم أغلق الباب من خلفي بقافية باب القصيدة باب ليس ينغلق ولذلك، فإنا نرى مفردات (الشعر) تملأ أفق هذا الديوان: في عناوين النصوص: الشاعر المتشجر بالكائنات، القصيدة نجمة الأرض الأخيرة، ريح الكتابة.. ممحاة الضجر، في حرم الشاعر البدائي، باب القصيدة.. فضلاً عن مفردات الشعر الأخرى داخل النصوص التي شكلت حقلاً دلالياً ضخماً، وكل هذا له دلالاته العميقة. حيث تتعانق كل تلك الرؤى في روح شاعرية بالغة الشفافية والرهافة، ممتزجة بنسيج الشعر في شغف لا ينضب. ومن دلائل هذا الشغف العجيب بالشعر: نصه (نبال مشروخة من كنانة «الملك الضليل»)، التي تمثل حوارية مع امرئ القيس، حيث نرى روح التوثب والبهجة والفرح والقرب والحميمية، وهو يخاطب امرأ القيس، وكأنما يخاطب صديقه المقرب، فهما يجلسان معاً ويتنادمان، ويشربان القهوة، ويداعبان الشعر: أنخ كل القصائد، ثم هيئ لنا يا صاح مائدة السجال هناك سنستريح على عسيب من الرؤيا، ونسرح في الأعالي ونمزج من خواطرنا حكايا بنكهة قهوة ومزاج هال ويكاد الشاعر يحملنا على تصديق حكايته مع امرئ القيس، من فرط وجده به، هذا الوجد الذي حملته (نا المتكلمين): غريبان التبسنا في لقاء أثيري بمنعرج الخيال كلانا في سواد الوقت ألفى مجرة عمره ذات اختلال كنانتك القديمة أورثتني من الأحلام مشروخ النبال هذا هو جاسم الصحيح.. الشاعر العظيم الذي يستفز ذاكرة التلقي وذاكرة النقد، شاعر الإحساء الذي تجاوز حدودها، وحلق بعيداً، كما تنبأ له غازي القصيبي –رحمه الله– حين كتب عنه قبل عشرين عاماً مقالة عنوانها: الإحساء تطلق صاروخاً شعرياً، وقال عنه: «جاسم محمد الصحيح تذكروا هذا الاسم إنه شاعر استثنائي يولد أمام أعينكم الآن». فهاهو شاعر الإحساء تجاوز حدودها وحلق بعيداً، وإن كان لايزال عاشقها العظيم، كما أنه قد نال من الجوائز والتكريم ماهو أهل له حقاً. إن (جاسم الصحيح) يعيد لنا الإيمان بالشعر.. الشعر البهيّ، المُطرِب، المتأمل، الشعر الذي يسحبنا في أمواجه الدفاقة، شغفاً وجمالاً ودهشة ونوافذ على الكون والإنسان والحياة. فشعره يستفز الناقد لقول الكثير، وما هذه المقالة إلا إضاءات خافتة عابرة، حول هذا الديوان المتألق لغة وفكرة.. بقلم: د. دوش بنت فلاح الدوسري أستاذ الأدب والنقد المشارك –جامعة الأميرة نورة
مشاركة :