الحجاب واستنفار الوعي

  • 12/24/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما رأيناه من استنفار الوعي الديني لدى طائفة غير يسيرة، واطلعنا على بعض ما خلّفه من آثار مؤلمة، يشهد على ثقافتنا الدينية من جهتين؛ الأولى أنها ما زالت ترى في المخالف عدوها، والباغي إضلالها، وإخراجها مما كانت عليه. والثانية أنّ دعوة الانفتاح التي يعيشها المجتمع فكراً وسلوكاً، وتعدها المجتمعات المعاصرة ضرورة من ضرورات الحياة، لا تلقى قبولاً لدى جمهور عريض من أهل وطننا!. أثبتت حادثة الحوار حول الحجاب لي؛ أن ثقافتنا الدينية غير معاصرة؛ إذ هي تفتقد أهم عنصر من عناصر المعاصرة، وهو الانفتاح على الآخرين، وما يجره من حسن الظن بهم، ورعاية حقوقهم في الاختلاف، وصيانة أعراضهم حين يختلفون عنا، ويرتضون لأنفسهم غير ما رضيناه لها. يبدو لي أن الثقافة التي دفعت بوشاً (علم أعجمي ثلاثي حكمه الصرف) الثاني إلى تلك المقالة الشهيرة(من ليس معنا فهو ضدنا)، وجعلته نموذجاً رديئاً في الوعي الديني عندنا؛ هي نفسها الثقافة التي تتحرك عليها جماهير الثقافة الدينية عندنا، وتنطق بلسانها؛ لكنها ثقافة محرمة على الآخرين، وحلال لنا!. والمزعج في هذا أن الفارق بيننا وبين بوش كبير؛ فالرجل قالها في صدد الحرب على الإرهاب الذي يقتل الأبرياء، ويغتال الآمنين، وما زلنا نحن إلى هذه اللحظة نُحذر منه، ونشتكي من جرائره، ونحن اليوم نقولها في حق من يُخالفنا في مسألة فقهية (الحجاب)، ويستند إلى نصوص صريحة، اعتمدها كثير من علماء الأمة، وأجازوا بناء عليها للمرأة أن تكشف وجهها، ولم يروا عليها حرجاً في ذلك!. من المزعج لي أن أرى في مجتمعنا المؤسسات الدعوية الأممية، والأفراد الذين لم يتركوا بلداً إلا قصدوه من أجل الدعوة إلى الإسلام؛ لكننا في مجتمعنا نستنفر طاقاتنا في ترجيح رأي فقهي على آخر، ونُقيمها حرباً شعواء على من يخالفنا فيه؛ ندعو الناس إلى التخلي عن أديانهم، ومواجهة مجتمعاتهم وأسرهم، ولا نرضى بالاختلاف الفقهي في بيئتنا وبين أفراد مجتمعنا، نرضى للمجتمعات الأخرى الفوضى باسم الدعوة، ونُدخل الاختلافات الدينية في الأسر، ونخلق صراعاً بين أفرادها، وإذا طُرِح في مجتمعنا رأي فقهي، له شواهده من النصوص، وأنصاره من العلماء، صيّرناها حرباً شعواء، وبذلنا جهودنا في تشويه الناس، واسترذال مقاصدهم، وكأننا على قلوبهم مطلعون، وبعلم الغيب عارفون! بالله أي بشر نحن، ومن أي طينة خُلقنا؟ أنقتص معايير خاصة بنا، نريد أن نعيش عليها، ونقتص للآخرين غيرها، ونحن ما فتئنا نردد مقالة: إنهم يكيلون بمكيالين؟ ليتنا فَطِنّا لهذه الخلة فينا، وتركناها في الناس؛ فلعل الله يرحمنا حين يرانا ننشغل بعيوبنا، وندع عيوب الناس، فيُنزل علينا من رحمته، ويُنقذنا مما نحن فيه!. كثيراً ما سمعت، وربما سمع القارئ مثلي، حديثاً عن الدول التي تُضيّق على الدعوة، وتعرقل جهودها، وهو حديث يُقصد من ورائه؛ العجب من تلك الدول، والغرابة من فعلها؛ نعجب من الدول أن ضيّقت على دعاة الأديان، وسعت إلى ضبط تحركاتهم؛ لكننا نُقيم الحروب الفقهية في بلادنا، ونطعن في أعراض الناس، ونهدم بألسنتنا إيمانهم، ثُم لا نحرك ساكناً، ولا نخجل من أنفسنا حين يطّلعون على أفعالنا. حين رأيت الاستنفار الديني الذي يحتسب فيه جمهور من رجالات الدين، ويعدّون معركة الحجاب هي معركة الإسلام في مجتمعنا، ويجلبون عليها بخيلهم ورجلهم؛ أدركت أن جمهوراً عريضاً منا ما زال يعيش بعيداً عن عصره، ويتفيأ ظلال ثقافة تقليدية، لم ينتزعه منها ما يعيشه في هذا العالم، وما يراه في مجتمعات الإسلام الأخرى؛ لقد خفيت عليه أجلى الصور من حولها؛ فما الدواء لمثل هذا الجمهور ورجالاته؟!. حين سمعت وشاهدت ما جرى؛ تذكّرت حادثة مع أمي، أطال الله في أعماركم، أمي تبلغ من العمر خمسة وثمانين عاماً، وهي بحمد الله صحيحة، تسمع جيداً، وتُنصت للقراءة والحديث كثيراً، جئتها قبل مدة، غير بعيدة، وكنت أحمل موطأ مالك، رحمه الله، بين يدي، فقرأت عليها منه هذا الحديث. "وحدثني عن مالك، أنه بلغه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة، وهي حادّ على أبي سلمة، وقد جعلت على عينيها صبراً، فقال:" ما هذا يا أم سلمة؟". فقالت:" إنما هو صبر، يا رسول الله. قال:" اجعليه في الليل، وامسحيه بالنهار" (موطأ مالك باب ما جاء في الإحداد). لفت انتباه أمي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة، وهي حاد؛ فقالت لي: وش قلت؟ فقلت: هذه رواية مالك في موطئه، وهو عالم المدينة المشهور. لم تُبدِ أمي أمام هذه الرواية أي اعتراض غير ما بدا من استغرابها من دخول الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، وهي كاشفة وجهها. تذكّرت هذه الحادثة بعد حين من وقوعها، وقارنت موقف أمي من هذه الرواية بموقف كثير من رجالات الدين؛ فثار عجبي، واستغربت أن تكون مسلمة عامية تقبل الرواية، ولا تسأل عنها، وتُسلّم لها؛ مع مخالفتها لما وجدت الأمهات عليه في مجتمعها؛ فقلت: رحم الله أمي، وأطال بعافية عمرها؛ أن فاقت هؤلاء في استقبالها للاختلاف، ورضيت به، وإن لم تتخذه لنفسها. ومالك الذي روى تلك الحادثة، روى أيضاً قصة الخثعمية في حجة الوادع، عن عبدالله ابن عباس قال:" كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت:" يا رسول الله: إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع" (باب الحج عمن يُحج عنه). هذا الحديث الصحيح مقلق للوعي الديني عندنا، نحن الحنابلة خاصة؛ لأنه أولاً متأخر زمناً؛ فهو قطعاً بعد نزول سورة الأحزاب التي يُحتج بها عندنا على وجوب الحجاب (قل للمؤمنات يُدنين عليهن من جلابيبهن)، وتُفهم وفق طريقة تجعل تغطية الوجه واجباً دينياً، وثانياً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة أن تدع النظر إلى الفضل، وإنما اكتفى بصرف نظره عنها، ومع قوة دلالة هذا الحديث؛ إلا أننا نسْتُره فلا نذكره، أو نعترض عليه بالعلل الضعيفة؛ كي يبقى رأينا الفقهي هو الصحيح، ورأي غيرنا من الفقهاء هو الخطأ، وأحبّ أن أبرز من هذا الحديث بعض الوجوه التي تنصر رأي جماعة الفقهاء في أن الوجه ليس بعورة من المرأة المسلمة؛ كما عبّر ابن بطال في نصه الآتي، فأقول: أولا؛ لو أنّ مجتمع الصحابة في مفهوم الاحتساب شبيه بمجتمعنا هذه الأيام، يُعلّم صبيانه الاحتساب على الآخرين، ويحضهم عليه، ويجعله من وظائفهم؛ لوجدتْ هذه الصحابية من يُخبرها بالحكم الشرعي الذي نذهب إليه، ونختاره من بين عدة آراء منقولة، ونعدّه موقف الإسلام من الحجاب؛ لكن ابن عباس ينقل لنا هذا الأمر الجلل (كشف الوجه الحسن أيضاً)، ولا ينقل لنا أن عشرات من المسلمين أنكروا عليها، واستنكروا فعلها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه أن الحديث يُعدّ محرجاً لنا في قضيتين؛ الأولى جزئية، وهي قضية الحجاب، والثانية منهجية؛ إذ يبدو مجتمع الصحابة، وهو المجتمع القدوة، على خلاف ما نحن عليه، وما نُربّي أطفالنا عليه منذ عقود! ثمة خطر علينا من هذا الحديث من جهتين؛ فأيهما أيسر قبولاً عندنا؟. وثانياً أن القول بأن الحجاب عام بين الصحابيات، وهنّ خير من يُطبق فهمهم لآية الأحزاب، يُثير أمراً آخر، هو أن هذه المرأة الخثعمية كانت في الحج، وكان معها من المسلمات العشرات أو المئات؛ أفلم تعجب من عموم الحجاب، وانتشاره بين المسلمات في ذلكم العصر، فتسألهن عنه، وتتمثل شرعة الله تعالى فيه؟ أتعيش هذه الخثعمية براحة ضمير في مجتمع يعمّه السواد، وتبدو فيه نشازاً بين النساء؟. لم يكن شيء من هذا؛ بل كانت الخثعمية مماثلة للنساء في ذلكم الزمن، ومُشاكلة لهن؛ فهذا هو حسن الظن بها، وحسنه بالمجتمع المحيط بها، وإن خالف ذلك وعينا الفقهي اليوم، ولم يجر وفق تصورنا الديني. وفي هذه المسألة يقول ابن حزم في "المحلى":" فصحّ أن اليد من المرأة والوجه ليسا عورة، وما عداهما ففرض عليها ستره ( 1/ 217)، ويقول بعد ذكره حديث الخثعمية:" فلو كان الوجه عورة، يلزم ستره؛ لما أقرّها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تُسبل عليه من فوق" ( 1/ 218)، ويقول أيضا:" وقد روينا عن ابن عباس في (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال:" الكف، والخاتم، والوجه. وعن ابن عمر: الوجه والكفان.." (1/ 221_ 222). وفيها يقول ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري:" والمرأة كلها عورة، حاشا ما يجوز لها كشفه في الصلاة والحج، وذلك وجهها وكفاها..، وأجمعوا أنها لا تصلي منتقبة، ولا متبرقعة، وفي هذا أوضح دليل على أن وجهها وكفيها ليسا بعورة، ولهذا يجوز النظر إلى وجهها في الشهادة عليه، وقال أبو بكر بن عبدالرحمن: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهذا قول لا نعلم أحداً قاله إلا أحمد بن حنبل... واختلفوا في تأويل قوله تعالى:(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فروي عن ابن عباس وابن عمر قالا: الوجه والكفان... وعلى قول ابن عباس وابن عمر جماعة الفقهاء" (باب في كم تصلي المرأة من الثياب). هذه الواقعة حول الحجاب أظهرت أن الإنسان لا يسأل عن الدليل، ولا يستخبر محدثه عنه، ولا يُلحّ عليه بالسؤال فيه والجدل حوله؛ إلا حين يكون الرأي الفقهي مخالفاً لما نشأ عليه، ومغايراً لما يعرفه في بيئته! هذه هي طبيعة الإنسان يخدعه مألوفه، ويغشه ما وجد آباءه عليه. منذ وُجد الإنسان على هذه الأرض، وهو يطرب لمألوفه، وينتشي حين سماعه، ويرى فيه الحق البيّن، وتتوقف قدراته الجدلية في فحصه، وتبيّن عوراته؛ مهما كان ذلكم الرأي، ومهما بلغ بُعْدُه عن العقل، وبان عنه الرشد!. مواقف كثيرة في الحياة مرّت عليّ، وأكّدت لي أن الإنسان يستسلم لمعهوده، ويُشكل حياته عليه، ولا يُفكّر في إعادة النظر فيه؛ مهما كان مُثْقِلاً لخطواته، ومُكبلاً لحركته؛ تلك هي طبيعة الإنسان عند فاقدي الفكر النقدي؛ لكن أجناساً من الناس في العصر الحديث تخلصوا منها، ونزعوا عنهم أعباءها، وبهم انكشف أنّ كثيراً مما يُسمّى طبيعة إنسانية، وجبلة بشرية، لا يعدو أن يكون نتاج ظروف الإنسان، وثمرة من ثمار فعله بنفسه! فمتى نستيقظ؛ كما استيقظ غيرنا، ونذر النوم العقلي في عصر أضحى أهله في صحو دائم؟ نقلا عن الرياض

مشاركة :