نادراً ما يطل القيصر كاظم الساهر في برامج حوار مطولة مثلما فعل في برنامج «ضيف ومسيرة» الذي استضافته أخيراً قناة «فرانس ٢٤» في حوار شيق ومتشعب من الطفولة وتبلور إرهاصات نزوعه الموسيقي والشعري إلى بداياته الفنية إلى طرق أبواب عوالم الشهرة وولوجها وصولاً إلى التربع على قممها وتصدره هرم اللون الرومانسي والتغني بالحب كقيمة عليا وبالمرأة الجميلة بالمطلق معنى ومبنى... المرأة «الشفافة»، «اللماحة» «الدائمة الطفولة»، «الشهية»، «البهية» وأخيراً لا آخراً «المستبدة». أغنيات باللهجة العراقية أو اللغة العربية الفصحى كما سلفه الفنان الكبير العندليب عبد الحليم حافظ الذي ويا للمفارقة كان قد تعاون هو أيضاً كما حال كاظم مع الشاعر السوري الكبير نزار قباني وكانت درة تاج ذاك التعاون رائعة «قارئة الفنجان». واستهل اللقاء بالحديث عن تحدره من عائلة شديدة الفقر وعن اضطراره لبيع دراجته الهوائية كي يبتاع غيتاراً، ثم أسهب في عرض معاناة النساء عبر نموذج والدته التي كانت ربة بيت متواضع صغير بالكاد يتألف من غرفة وصالة وتُعيل عشرة أبناء وكيف أنها كانت تتصبب عرقاً من شدة الحرارة بخاصة وهي تعد الطعام لأسرتها بما لا أجهزة تكييف في المنزل، في سرد صريح وواقعي يظهر كم أن طريق الساهر الحياتي والفني كان شاقاً ولم يكن مفروشاً بالورود. ويقيناً، أنه بعد رحيل أو اعتزال أيقونات العصر الذهبي الغنائي العربي مثل أم كلثوم وشادية وعبد الحليم ونجاة وناظم الغزالي وصباح ووردة وفيروز... وشيوع نمط من الغناء الهابط وتردي السوية الفنية، شــكّل الســـاهر عــلامة فارقة ممثلاً امتداداً لجــيل العمالقة ولزمنهم الذي لطالما وصف بالجميل وهو الذي أعاد الاعتبار للقصائد الفصحى العاطفية التي تحولت علامات خالدة مثل: «أني خيرتك» و «زيديني عشقاً» و «أنا وليلى» و «كل عام وأنت حبيبتي» و «حافية القدمين» و «الحب المستحيل»... تلك الروائع التي غدت ملح وزاد ملايين قصص العشق والغرام يحفظها العشاق والواقعون في الحب عن ظهر قلب. فالساهر يكاد يكون الفنان الأوحد الذي حرر الفصحى وحولها من لغة حبيسة المدارس والدوائر الرسمية والكتب المدرسية والمعاجم إلى محكية متداولة على كل شفة ولسان عبر ترداد أغانيه المبدعة كلمات ولحناً وأداء. فأن تتربع على العرش الطربي في مشارق العالم العربي ومغاربه باللغة الفصحى وبخاصة لدى الفئات العمرية الشابة يعتبر نجاحاً قلما حصده فنانون آخرون حتى أنه يلحن كل أغنياته كما يقول بل ويكتب كلمات بعضها كما حال «ضمني على صدرك» و «هذا اللون عليك يجنن» و «بعد الحب»، ما يكشف أننا حيال فنان شامل ومرهف ينظم الشعر والنثر ويبدع الألحان ويتميّز بخامة صوتية عذبة وبانغماسه المبرم في مسامات أغانيه إحساساً وتمثلاً وأداء. وبلا ريب فإن عرض هذه التجربة المثيرة لفنان كبير بحجم كاظم الساهر والإضاءة على جوانب خفية وشخصية من حياته وعرض رؤاه وأفكاره يعد مادة دسمة تلبي نهم وفضول المشاهدين، وجلهم من محبي وعشاق هذا النجم الساطع في سماء الغناء والفن العربيين. فحديث الساهر كان ذا شجون ممتد من البدايات إلى الآن وعن قضايا فنية وحياتية عامة متشعبة، متطرقاً إلى بلده العراق الذي لطالما حاول تغيير النظرة النمطية السائدة عنه لوقوعه ضحية الحروب والاستبداد والانقسامات الأهلية، بحيث طغت هذه الصورة عن حقيقة ما تكتنزه تلك البلاد من عمق وعراقة حضاريين ثقافيين. وأشار مثلاً إلى شارع المتنبي في بغداد الذي يضم تلالاً من الكتب تبقى معروضة على الأرصفة طوال الليل من دون أن يسرقها أحد، ممازحاً بالقول: ومن يسرق الكتب؟ وكشف عن تعرضه للتهديد بالفصل من معهد الدراسات الموسيقية نتيجة أغنيته «عبرت الشط» بدعوى انتمائها للون الشعبي الأمر الذي لا يستقيم مع كونه طالب موسيقى وكأن الفن والموسيقى حقلان نخبويان حكر على طبقات بعينها وأذواق بذاتها، والمفارقة أن «عبرت الشط» كانت جواز عبوره للشهرة ومحبة الجمهور. وبطبيعة الحال كان للأنثى نصيب الأسد من حديث الساهر، المرأة- الحبيبة هي الوطن بحسبه، مقراً أن الرجل يبقى عاجزاً عن مجاراة عاطفية المرأة ورومانسيتها التكوينية وعن بلوغ وملامسة أعماق مكامنها الروحية السامية التي تبقى بحاجة متواصلة للإشباع العاطفي المستدام. فلا غرو في أن تكون المرأة والحب محوري حديث الساهر، ما يفسر ربما لكون غالبية معجباته من الجنس اللطيف. ثم تحدث عن علاقته مع الشعراء وبخاصة تجربته الثرية مع الشاعر الكبير نزار قباني والتي بدأت اثر غنائه قصيدة «إني خيرتك فاختاري» من دون علم قباني الذي تجاوز الأمر بفعل الحلة البهية التي خرجت بها الأغنية التي يعتبرها كاظم بوابة العبور الناجز نحو النجومية المتكاملة ولتكر سبحة تعاونهما الذي أفرز روائع فنية من «مدرسة الحب» إلى «أكرهها» و «قولي أحبك» و... فمع نزار دخل كاظم عالم أغاني القصائد موضحاً حجم الكيمياء والتجانس بينهما، وكيف أن نزار لم يكن يمانع في وضع كاظم لمساته على بعض القصائد المغناة أحياناً لاعتبارات كالنشر. فمثلاً جملة «حبك خارطتي ما عادت خارطة العالم تعنيني» أصلها «جسمك خارطتي»، مبيناً أنه احتراماً لنزار يغنيها كما هي في نصها الأصلي خلال حفلاته. كما عرج على علاقته مع رفيق دربه الفني الـــشاعر كريم العراقي، كاشفاً عن مدى إرهـــاقه لكريم لكونه يقضي وقتاً طويلاً خلال انتقاء الكلمات والقصائد وتعديلها وإكسائها بالألحان والروح الموسيقية، مشيراً إلى أن جمهوره متطلب صارم وحصد رضاه ليس سهلاً بالمرة، ما يجعل العبء ثقيلاً على كاهله، فهو مطالب والحال هذه دوماً بالأفضل أو أقله الحفاظ على السوية العالية التي عود جمهوره عليها. وهكذا فقد كان حوار «فرانس 24» مع الساهر ملؤه حكايا وقصص الحب والحق والخير والجمال، إضافة إلى عرض سلس وغير تقليدي لتجربة فنان أكثر من رائع.
مشاركة :