فنان فلسطيني ينسى ليدرب الخيال على احترام الواقع

  • 8/24/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ينشر الفنان التشكيلي الفلسطيني ماهر ناجي على صفحته الفيسبوكية أعمالا فنية جديدة بنشاط مستمر، رغم عيشه في ظروف قاسية بمدينته غزة التي تتعرض مؤخرا إلى أقصى ضربات الشقاء، وتخاطبك أعماله “الجنائنية”، حيث الحب والسلام يكللان حتى أكثر اللوحات دلالة على حوادث قاهرة ومحددة عاشتها ولا تزال فلسطين، من بينها اعتقال الصبية عهد التميمي واستشهاد شاكر حسونة غزة (فلسطين) – يعلق الفنان التشكيلي الفلسطيني ماهر ناجي على لوحته الأخيرة التي أهداها إلى روح الشهيد الفلسطيني شاكر حسونة، بهذه الكلمات “أجريت مقاربة تاريخية بين المسيح لحظة صلبه وبين حالة الشهيد شاكر الذي رسمته يصلب على أيدي الصهاينة، أي أن اللوحة تشير بوضوح إلى أننا ما زلنا في حالة صلب حتى يومنا هذا..”. غير أنه من المحال التغاضي عن نفحة الأمل التي تتبرعم زرقاء/ ذهبية في ثنايا هذه اللوحة الرمزية/ التعبيرية وغيرها من اللوحات النابضة بالشعر، والتي ما انفك ينشرها الفنان الفلسطيني على صفحته الفيسبوكية في ظل الحصار الذي تعيشه مدينته غزة. تحدثك جميع لوحاته أنها قادمة من مصهر نار وفولاذ، وقد تمرس الفنان على صقلها وتلميعها تحت وطأة حرارة مرتفعة بنسيان مُبلسم، أو تناس للألم والجراح الآنية بهدف الحفاظ على جوهر هذا المشهد الفلسطيني غير القابل للفناء: زيتون وليمون وأعراس عربية. ونظرة الفنان هذه التي تريد أن تكون مغسولة دائما بماء الورد جعلته في مجال آخر وفي إحدى المناسبات الصحافية يجيب عن تأثير الحصار على نشاطه الفني “أمقت التباكي واعتبار الحصار شماعة لتعليق جل مشاكلنا عليه، صحيح أن الحصار منعني من السفر وأن أكون حاضرا مع لوحاتي، ولكن هذه المشكلة واجهتها بإرسال رسوماتي إلى معارض كثيرة خارجية نشرت أعمالي”. مؤخرا عرض الفنان على صفحته الفيسبوكية عملين أو ثلاثة بلغ فيهما حدا كبيرا من التجريب، حيث استحالت شخوصه إلى ما يشبه تجريدات لونية منكفئة على أجسادها. وهذه اللوحات ومن ضمن غيرها من الأعمال الأحدث والأقدم، إن كانت تدل على شيء، فهي تدل على أن الفنان يكاد يختصر في جميع أعماله الفنية ما عبّر عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش، حين قال “النسيان، هو تدريب الخيال على احترام الواقع″. ومن هذا المنطلق تماما تولد أعماله مُحملة في أحيان كثيرة بالخيبات، ولكن ندية ونابضة رطّبها الحلم والإيمان بقضية لن تموت، هكذا يحوك الفنان تصوراته وتجسيداته الفنية على قماش اللوحة. أعمال الفنان الفلسطيني مُحمّلة بالخيبات، ومع ذلك تأتي ندية ونابضة يرطّبها الحلم والإيمان بقضية لن تموت أما فنيا وتقنيا فكيف يتمظهر ذلك في لوحات الفنان؟ أغلب الظن أنه يتبدى ذلك في ما يمكن اعتبارها لوحات درامية، ولكن حتما ليست تراجيدية، وتتمثل هذه الدرامية في براعة الفنان في شحن أعماله بالضوء والعتمة، بالرطوبة والقيظ، وبالظل والوضوح الساطع في معادلة، غالبا لا يتغلب فيها أي عنصر على عنصر آخر. كما تظهر درامية الأعمال ليس فقط من خلال المواضيع التي يعبر عنها الفنان والتي تهجس عاى مدى الزمن بفلسطين وبتجليات هيئاتها المختلفة في البشر والحجر والأشكال والطبيعة والرموز، ولكن تظهر بهذه القدرة على “توضيب” الحزن في علب طيّعة ومُشرقة تزركشها تمائم فلسطينية تحمي الألم وترعى أسبابه دون أن تسمح له بالانتشار والتفشي كالسم القاتل في آفاق لوحاته، لوحاته التي غالبا ما تكللها النباتات وتحميها الشجيرات من نظرة أي غاصب. نذكر من تلك اللوحات تلك التي يطغى عليها لونان: الأزرق والأسود ويبدو فيها أربعة أشخاص، من بينهم صبي في مقدمة اللوحة، أشخاص يلتفون بأقمشة وكأنهم تمائم، ثمة تكتم كبير على عوالمهم الداخلية المُجرّحة بحزن عميق، كل واحد منهم له سره الخاص وإن شابه أسرار الآخرين الذين يشاركونه ذات الظروف ونفس المصير. برع ناجي في “تعليب” هذا الحزن والإثناء عليه جماليا في أجساد شخوصه المُلتحفة لكي لا يسمح له بالانتشار بالجوّ العام للوحة، فتتحوّل من درامية إلى تراجيدية. أما الجوّ العام في هذه اللوحة وفي الأكثرية الساحقة من إنتاجه، تبرز فيه خاصية مهمة جدا تتميز بها أعماله عن سائر أعمال الفنانين؛ فخلفية أعمال ماهر ناجي، تذكر بشكل كبير بحجر نفيس اسمه “الأوبالين”، حيث يرنو إليه الناظر وكأنه يتطلع إلى قاع بحر صاف تترقرق فيه أحجار ملونة وأسلاك دقيقة وشذرات متقطعة من الفضة. وتظل صفة “الحجرية”، إذا جاز التعبير، أدقّ من وصف خلفيات لوحات الفنان على أنها مياه بحر متحركة تشف عن كنوز ملونة، فثمة سكون يلامس الثبات التام في أحيان كثيرة في لوحاته، يتوقف الزمن في لوحات ناجي حتى في تلك التي تجسد راقصات يلوّحن بأيديهنّ في الهواء، إنه الثبات على جعل فلسطين أيقونة وتنزيلها خارج منظومة الزمن ومتغيراته الخائنة. يرسم ماهر ناجي في أحيان كثيرة متأرجحا ما بين من يريد أن يحتفي بالحزن حينا، وبين أن يكون مدفوعا برغبة توثيقية لتسجيل معالم فلسطين التراثية خوفا عليها من الاندثار، أضف إلى هاتين الحالتين اللتين تكادان لا تفارقان أعماله، هذه النضارة الرطبة والحسية التي تُعشش في خلايا لوحاته جاعلة منها رئات تتنفس و”تخرّ” بخفر. ربما هي ذات الرطوبة الفذة التي تحدث عنها بصدق خالص وحساسية شديدة في معرض كلامه عن مدينة غزة، خلال إحدى مقابلاته الصحافية، إذ استرسل قائلا “في إحدى الزيارات إلى المملكة المغربية، حيث كنت أمثل فلسطين في مؤتمر للفن التشكيلي، كانت تشغلني طريقة العودة، عبر معبر رفح البري وكان الوقت فجرا والأجواء ماطرة. أذكر تلك اللحظة عندما انتقلنا من الجانب المصري ودخلنا إلى الجانب الفلسطيني، لا أدري إن كانت حقيقة أم شعورا عاطفيا، حيث شعرت أن الهواء تغيّر عبقه وانهمرت الدموع من عينيّ لا إراديا، هذا هو الوطن، غزة فلسفة لا يدركها إلاّ المجانين، عالم متكامل من الحب والموت والسلام والحرب، بيئة خصبة لكل ما تريده”.

مشاركة :