مستقبل العلاقات التركية الأمريكية.. إلى أين؟

  • 8/24/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تتجه بوصلة العلاقات الأمريكية التركية إلى مزيد من التوتر غير المسبوق، ورغم الأسباب المعلنة ظاهريًا بشأن قضية اعتقال القس الأمريكي، «أندرو برونسون»، المتهم بإقامة علاقات مع حزب العمال الكردستاني المحظور، فإن قائمة الخلافات طويلة، وتتعلق بمجمل العلاقات السياسية الخارجية للبلدين. آخر هذه الخلافات، قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في العاشر من أغسطس، بمضاعفة التعريفة الجمركية على الصُلب والألمنيوم الوارد من تركيا بنسبة 50 و20%؛ الأمر الذي أدى إلى تدهور غير مسبوق في قيمة الليرة، وهروب المستثمرين، في إطار نهج شامل يستهدف الواردات التركية بما فيها الفحم بزيادة جمركية من 10% إلى 14%، والسيارات من 35% إلى 120%. ويعد هذا التصعيد هو الأكثر حدة في تاريخ النزاعات بين البلدين، حيث بلغت قيمة صادرات الصُلب إلى واشنطن، في عام 2017 ، 1.12مليار دولار بنسبة 13.6% من إجمالي صادرات الصُلب التركية؛ الأمر الذي جعل الحكومة التركية تعلن أن هذه الإجراءات الانتقامية على صادراتها تمثل «بداية حرب اقتصادية»، وقال عنها «أردوغان»: «إنها لن تؤدي إلا إلى تقويض المصالح الأمريكية والأمن»، معتبرا أن «نقل الخلافات السياسية إلى المجال الاقتصادي سيكون ضارًا للطرفين».. داعيا الشعب التركي إلى الاستعداد لمعركة وطنية ضد أعدائهم في المجال الاقتصادي»؛ الأمر الذي جعل أحد المحللين يصف التغير في العلاقات بينهما بأنها تتحول «من الحرب الباردة إلى المواجهة المباشرة». وكانت صحيفة «نيوز. ري» الروسية، قد أعلنت فرض أمريكا عقوبات ضد كل من روسيا وإيران وتركيا في الوقت نفسه تقريبا، ومن المتوقع أن تؤثر هذه العقوبات سلبا على المناخ الاقتصادي في هذه الدول. وبحسب الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، «ماكسيم سواشكوف»، فإنه «لا يمكن اعتبار ذلك محض صدفة، وإنما هناك نيّات مبيتة»، وقالت «ستيفاني سيجال» من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن: «يبدو أن الولايات المتحدة تضغط على تركيا لكبح علاقاتها الاقتصادية مع إيران». علاوة على ذلك، قامت الولايات المتحدة في 31 يوليو 2018 بفرض عقوبات على وزيري الداخلية، والعدل التركيين، ردا على رفض أنقرة الإفراج عن القس الأمريكي، أندرو برونسون، ووفقا لما كتبه «كيث جونسون»، في مجلة «فورين بوليسي»، فإن «فرض العقوبات على كبار المسؤولين الحكوميين في دولة حليفة هو تصعيد كبير وانعكاس لمدى تطور الخلاف بين الدولتين». وعلى ما يبدو، فإن معظم المحللين قد أجمعوا على أنه لا يمكن التوفيق بين العلاقات التركية-الأمريكية في وقتنا الحاضر، نتيجة الخلافات الأيديولوجية، والاستراتيجية بين البلدين، والتي بدأت في عهد الرئيس السابق، «باراك أوباما» بسبب اختلاف المبادئ، والنهج الشامل للسياسة الخارجية، وكان له انعكاسه على المواقف والمصالح بين واشنطن وأنقرة، حيث باتت الأخيرة أقرب إلى مواقف روسيا، المنافس التقليدي لواشنطن، بدءا من قرار تركيا منع قوات الناتو من دخول قاعدة «إنجرليك الجوية»؛ لاستخدامها في إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003، حيث أجبرت أمريكا على التفاوض معها مدة عام لاستخدام القاعدة. ويظهر هذا الخلاف بشكل أكبر في القضية السورية؛ حيث تدعم واشنطن قوات وحدة حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، الأمر الذي دفع أنقرة إلى توافق استراتيجي مع إيران وروسيا في سوريا، وتوجه «أردوغان» بعيدًا عن تحالف شمال الأطلنطي. وعلى الرغم من أن الدعم الأمريكي للأكراد قد أغضب تركيا منذ بداية الحرب الأهلية السورية، فإن «سينان سيدي»، محلل المخاطر بمركز «ستراتفور»، الأمريكي، أرجع توتر العلاقات بين البلدين إلى بداية تولي الرئيس، «ترامب» مهام منصبه في يناير عام 2017، مؤكدا، أن «قرار واشنطن تقديم الدعم إلى القوات الكردية؛ دفع «أردوغان» إلى التعاون مع روسيا، وهو ما عزز من تباين المواقف التركية-الأمريكية حول سوريا أكثر من ذي قبل». في حين تبرز عدة قضايا أخرى مثلت أوجها متعددة للأزمة؛ مثل: الهجوم على المتظاهرين الأكراد في واشنطن من قبل حرس الرئيس «أردوغان» في مايو 2017، وعدم تقديم الولايات المتحدة الدعم الكافي له في أعقاب محاولة الانقلاب عليه في عام 2016، واختلافهما فيما يتعلق بمجمل الرؤية الاستراتيجية لكلا الجانبين حول مستقبل سوريا، ورؤيتهما للدورين الروسي والإيراني، سواء في المرحلة الراهنة أو المقبلة، فضلا عن شراء أنقرة أنظمة الصواريخ «S-400» الدفاعية من روسيا، التي تعارض الهيكل الأمني الحالي لحلف الناتو، وتقوض محاولات الحلف لعزل موسكو، فضلا عن عدم حدوث تغير في السياسات الأمريكية التقليدية مع قدوم «ترامب»، واتخاذ خطوات مثل تسليم «فتح الله جولن، ووقف التعاون مع وحدات حماية الشعب»، كما تقول «أماندا سلوت»، من معهد «بروكينجز»: «لم تحد الإدارة الجديدة بشكل كبير عن سياسات واشنطن القائمة تجاه تركيا، ما يعني مزيدا من الانقسامات»، فضلا عن القضايا الجيواستراتيجية الواسعة التي تثير الخلاف، مثل خلافاتهما حول الناتو. كما أن واقعة احتجاز القس «برونسون» تعد أحد العوامل التي قوضت العلاقة بشكل كبير، بعد أن مثلت أحد المحاور الأيديولوجية، والانتخابية المهمة لكلا الطرفين. ويشرح «ماكس هوفمان»، من مركز أبحاث التقدم الأمريكي، أن «المصالح السياسية لحزب العدالة والتنمية تخدمها الهجمات الخطابية ضد الولايات المتحدة، وينطبق الشيء نفسه على إدارة «ترامب»، حيث يمثل إطلاق سراح القس الإنجيلي «أولوية انتخابية وأيديولوجية». غير أن ما يثير القلق أكثر هو التحولات المتعلقة بالنظرة الاستراتيجية لأنقرة، التي تنجرف بعيدًا عن الغرب، فيما أصبحت أيديولوجيتها المتعلقة بالسياسة الخارجية تتبنى نهجًا مواليًا أكثر للشرق. ويوجز تقريران أعدهما مركز «ستراتفور» بعنوان: «حملة أردوغان القومية»، «أمريكا الأولى لترامب» «أن كلتا الدولتين تتبنى سياسات تعكس شكلا عدوانيا من أشكال القومية، ما يجعل التوصل إلى حل وسط بشأن المصالح القومية بين الاثنين مستحيلا». بشكل عام، يبدو الوضع غير قابل للتوفيق، في ظل سعي الطرفين إلى خدمة المصلحة الذاتية الأيديولوجية، والاستراتيجية، وهو ما أشار إليه، «أيكان إديرميير»، من «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» بواشنطن: أنه «أمر غير مسبوق، أن تُعاقب واشنطن وزراء من حليفها «الناتو». وبحسب ما أشار «بول راهي»، من مؤسسة «هوفر»، «ستظل العلاقات متوترة بين البلدين في المستقبل المنظور»، وبحسب ما أوجز ترامب فإن «علاقتنا بتركيا ليست على ما يرام في وقتنا الحالي، وعلى ما يبدو، فإن الأتراك غير مبالين بتحسينها في المستقبل القريب». وتاريخيا، تعاونت الدولتان معا في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وتغاضيتا عن معظم الاختلافات الاستراتيجية بينهما، ولهذا السبب انضمتا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي. وفي هذا الصدد يقول «روبرت مور» في صحيفة «واشنطن تايمز»: « الآن ليس هناك سبب واضح لعضوية تركيا في حلف الناتو، حيث لا تريد تركيا أن تشعر بالخضوع لمطالب أمريكا من أجل ضمان أمنها الوطني ضد روسيا». وهو ما أوجزه «ستيفين ايه. كوك»، من «مجلس العلاقات الخارجية» بقوله: «إن التداعيات ليست دالة على الشخصيات الفريدة والرؤى العالمية للرئيسين الأمريكي والتركي، لكن على المستوى الأساسي، نتيجة لعالم مُتغير لم تعد فيه واشنطن وأنقرة تتشاركان تهديدا مشتركا». ويقول «ستيفن كوك» من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، في مجلة «فورين بوليسي»: إن «العلاقة الخاصة بين تركيا وأمريكا لم تعد موجودة». ويؤكد الكاتب أن إدارة الرئيس «ترامب» هي الأولى التي تفهم تركيا ومواقفها، وتقرر في هذه الحالة التصرف بناء على ذلك». ومع ذلك، لكي يكون للعلاقة أي احتمال للتعافي، يبدو أن هناك حاجة إلى إحداث «تغيير جذري»: إما أن تعيد روسيا فرض نفسها كتهديد لتركيا وأمريكا على حد سواء، أو أن يطرأ تغيير على الإدارة في إحدى الدولتين أو كلتيهما لتبني المناهج الأيديولوجية والسياسات الجديدة. وهو ما لا يبدو ممكنا في المستقبل القريب. وعلى الرغم من كون «أردوغان» شخصية سياسية مثيرة للانقسام في الداخل التركي، وغالبا ما يتم نقده في وسائل الإعلام الدولية، فإنه لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة. وهو ما يوضحه «سونر جاجابتاي»، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: «يؤمن مؤيدو «أردوغان» بأن تركيا لا تستطيع أن تقوم بمهمتها التاريخية المتمثلة في جعل تركيا عظيمة من دونه». وإذا كان الاقتصاد التركي يعاني من انهيار نتيجة العقوبات الأمريكية، فمن غير المتوقع أن يضعفه هذا الأمر محليا. «أما بالنسبة إلى ترامب، فقد أخفقت المُعارضة حتى الآن في العثور على مرشح ذي مصداقية بمقدوره تحديه للفوز بالرئاسة في الانتخابات التي ستجرى بعد ما يزيد قليلا على عامين.. وهذا يعني أن إمكانية استبداله برئيس أكثر تصالحية منه هو احتمال ضعيف حاليًا، ما يقلل من فرص التقارب بين البلدين في السنوات المقبلة. بشكل تراكمي، مع اتخاذ خطوات معينة من قبل أي من الطرفين، فإن الانهيار الحالي في العلاقات يمكن أن يثبت أنه يسير في طريق لا رجعة فيه. وفي المقام الأول، قد ينشأ هذا إذا قررت تركيا الخروج من حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، وخاصة أن تلميحات «أردوغان» باللجوء إلى اتخاذ هذا القرار قد ازدادت على مدار عام 2018. وفي الآونة الأخيرة، هدد بأن تركيا «ستبحث عن أصدقاء وحلفاء جدد». وإذا وقع هذا، فإنه يمكن اعتباره انهيارًا كاملًا في العلاقات بين البلدين، التي تفتقر إلى أي إطار للتعاون أو التواصل، فضلا عن أن التأثيرات الجيوسياسية والاستراتيجية ستكون كبيرة. وعلى أساس الانهيار الذي يحدث اليوم، يمكن تصور وضعين رئيسيين من العلاقات. الأول: هو إزالة تركيا كشريك استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والذي سيكون له تأثير كبير سواء للقوة الناعمة أوالغاشمة على المصالح الأمريكية، حيث تعتمد الولايات المتحدة على تركيا لتكون بمثابة مركز رئيسي لانطلاق جميع عملياتها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لتمثيلها المصالح الغربية في المنطقة ذاتها. وبحسب ما أكده المحلل الدبلوماسي «كولم لينش» لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، فإن هناك العديد من الفوائد اللوجستية التي تقدمها تركيا من خلال «قاعدة إنجرليك الجوية التي تعتبر موطنا لمخزون الولايات المتحدة من القنابل النووية من نوع «B61»، وكما تقول «لورين طومسون»، محللة الشؤون العسكرية في معهد ليكسينغتون»: «إن المشكلة الأساسية التي تواجهها واشنطن هنا هي أن موقع تركيا الجغرافي لا يقدر بثمن». والثاني: بغض النظر عن هذه الاعتبارات العسكرية واللوجستية، فإن فقدان تركيا كشريك، من شأنه أن يؤدي إلى خسائر للقوة الناعمة التي تمارسها واشنطن في المنطقة، وإذا ما تراجعت العلاقات أكثر فأكثر، فمن المرجح أن تواصل تركيا إدارة دفة علاقاتها نحو إيران وروسيا، ما سيعزز مكانتهما وقوتهما الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة برمتها، ومع خسارة الولايات المتحدة واحدة من أهم مواطئ قدمها في المنطقة، ستصبح الدول الهشة مثل ليبيا عرضة بشكل متزايد للتسلل الإيراني من خلال استخدامها للقوات غير النظامية بالوكالة، أو الهيمنة الروسية من خلال إقامة روابط عسكرية واقتصادية وسياسية. ومن شأن هذا السيناريو أن يضعف بشدة نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط؛ ومن ثم قدرتها على تشكيل الأحداث والمبادرات الإقليمية لخدمة مصالحها الغربية. وفي المجمل، يعمل هذا الخلاف ضد المصالح الجيوسياسية العامة لكلتا الدولتين. ومع ذلك، وبالنظر إلى العقيدة الأيديولوجية القومية الواضحة لدى الرئيسين؛ فإنه من غير المتوقع أن يغير أي منهما نهجه في المستقبل القريب. وبذلك، فإنه من غير المرجح أن تتعافى هذه العلاقة الاستراتيجية سريعا، ما سيضر في نهاية المطاف، ليس بمصالح الدولتين فقط، لكن بمنطقة الشرق الأوسط ككل.

مشاركة :