لا يُبدّل من التاريخ ولا يغير الجغرافيا

  • 8/26/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

سليمان جودة بدا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو يخطب أمام جمع من الأمريكيين في ولاية فرجينيا، قبل أربعة أيام من الآن، وكأنه وزير الخارجية البريطانية الشهير بلفور، الذي وقف قبل مئة عام، لا ليخطب، ولكن ليُصدر وعداً يعطي به ما لا يملكه، لمن لا يستحقه! كان ترامب قد قرر في الخامس من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، الاعتراف بالقدس عاصمةً ل«إسرائيل»، وكان العام هو عام انقضاء مئة سنة على الوعد الذي كان قد صدر 1917، وأعطى اليهود حق إقامة وطن قومي على أرض فلسطين. وقد كان الأمل أن يكون مرور الوقت من ديسمبر إلى اليوم، كافياً لإقناع ساكن البيت الأبيض، بأن حصول مَنْ لا يملك، منذ قرن كامل، على ما لا يستحق، لم يحل المشكلة، وأن الاعتماد على المنطق نفسه هذه الأيام، لن يحلها، لكنه سوف يزيدها تعقيداً، وسوف يزيد اليقين في أن على الذين حصلوا على ما لا يستحقون، أن يعيدوا الأرض التي وقعت وتقع تحت الاحتلال في فلسطين، إلى أصحابها، إذاً، لا حل آخر سوف يُنهي هذه المشكلة ! الغريب أن ترامب قال في خطاب فيرجينيا ما يلي: سوف يكون على «إسرائيل» أن تدفع في المفاوضات ثمناً أكبر بكثير، لأنها حصلت على هدية قيمة جدا، ثم قال: لقد أزلنا قضية القدس عن مائدة التفاوض لنتمكن من تحقيق السلام يوماً، وهكذا يأبى الرجل إلا أن يقدم شيئاً لا يملكه، هو القدس، هدية إلى طرف لا يستحق الهدية، ولا يجوز له أن ينتظرها، لا لشيء، إلا لأن الذي يملك إهداءها هو صاحبها، ولأن أحداً لم يستطع أن يُثبت بعد، أن للقدس أصحاباً سوى الفلسطينيين! لم يستطع أحد بعد ! وإذا كان الرئيس الأمريكي يملك أوراق الإثبات، فهو على كل حال لم يخرجها إلى العلن، ولم يضعها أمامنا على أي مائدة! ولو أن مستشاري الرئيس أنصفوه، وبمعنى أدق لو أنهم كانوا أمناء معه، ومع أنفسهم، لهمسوا في أذنه بأن التفاوض الذي يفترض هو أن «تل أبيب» ستقدم فيه ثمناً أكبر، يقتضي بالضرورة أن يكون هناك طرف فلسطيني آخر يجلس على المائدة ويفاوض فيقبل أو يرفض. هذا هو المنطق، لأن المفاوض «الإسرائيلي» بالقطع لن يفاوض نفسه، ولكن، بما أن الطرف الفلسطيني الآخر يرفض أي حديث عن انتساب القدس إلى أحد سواه، رفضاً لا جدل حوله، ولا نقاش، ولا فصال فيه، فالكلام عن ثمن سوف يكون على «الإسرائيليين» أن يدفعوه، هو كلام عن طرف يتفاوض مع ذاته، على طريقة جورج الخامس الذي قالوا عنه يوماً، إنه كان يفاوض جورج الخامس.. طرف يتصور أن عبارة أو عبارات من رئيس الولايات المتحدة، أمر يمكن أن يبدل من التاريخ، أو يُغير من الجغرافيا، مهما أصدر بلفور من وعود، ومهما قدم ترامب من اعترافات! صحيفة «نيويورك تايمز» كانت قد احتفلت على طريقتها الخاصة، في الخامس عشر من مايو/أيار 1998بمرور نصف قرن على قيام «إسرائيل»، وكانت قد ذهبت تستطلع وتتقصى آراء الرؤساء الأمريكان الذين تعاقبوا على البيت الأبيض على مدى خمسين سنة، لترى كيف يتطلع كل واحد منهم إلى «تل أبيب»، وكيف يراها، وكانت قد اكتشفت أن القاسم المشترك الأعظم بينهم جميعاً، ودون استثناء، هو التأكيد من جانب كل رئيس في وقته، على ضمان أمن «إسرائيل»، وعلى أن ذلك يمثل التزاماً لديه، بمثل ما هو التزام لدى غيره ممن سبقوه، بدءاً من الرئيس هاري ترومان الذي جرى الإعلان عن قيام دويلة «إسرائيل» في عهده، إلى بيل كلينتون الذي جرى الاستطلاع في أيامه، فكانوا كلهم، وكأن كل واحد من بينهم، يسلم وصية للقادم من بعده تبين إطار الالتزام، وتضع حدوده، وترسم معالم الطريق إليه! أعرف هذا، ويعرفه غيري ممن يتابعون شأن القضية، ولكننا نعرف أيضاً أن التزاماً كهذا، لم يغير من الحقيقة في شيء. اعتراف ترامب بالقدس عاصمة ل«إسرائيل»، قبل تسعة أشهر، ثم كلامه الأخير عن أن اعترافه كان بمثابة الهدية القيمة لدويلة الاحتلال، لن يبدل من التاريخ، ولن يغير من الجغرافيا ! فالأول يقاوم التغيير ويرفضه ويأباه، والثانية تستعصي على التغيير! soliman.gouda@gmail.com

مشاركة :