حلمي موسى لم يهنأ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كثيراً بإعلان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن المستوطنات ليست غير شرعية. فقد كان هذا الإعلان يهدف، بين عدة أهداف، إلى مساعدة نتنياهو في التغلب على مصاعبه بتشكيل ائتلاف حكومي على مقاسه وتجنب ملاحقات قضائية وسياسية.جاء قرار المستشار القضائي للحكومة «الإسرائيلية»، أفيحاي مندلبليت، تقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو في ثلاث ملفات فساد كبرى ليقلب الأمر رأساً على عقب. ومع ذلك فإن اليمين الأمريكي؛ ممثلاً بإدارة ترامب، لم تكن يرمي فقط إلى مساعدة نتنياهو وإنما أيضاً إلى مساعدة اليمين الصهيوني؛ لحسم الموقف في أرض فلسطين. وقد أشارت مصادر مختلفة إلى أن التغيير الجوهري الذي بدأته إدارة ترامب في سياستها تجاه الصراع العربي «الإسرائيلي» يرتكز إلى أسانيد «مسيحية» يؤمن بها مؤيدو هذه الإدارة، وتتصل بتقريب نهاية العالم، كما يعزز تأييد اليهود واللوبي اليهودي فرص نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية. وقد رأى بعض قادة المسيحية الأنجيلية في نتنياهو مبعوثاً يحث الخطوات نحو الخلاص النهائي بالحرب الكونية. كما أن هناك من رأى في هذا التغيير بأنه يعد جزءاً من المعركة التي يخوضها اليمين الأمريكي الشعبوي المتطرف ضد الليبرالية، التي أوصلت باراك أوباما إلى الحكم؛ ولذلك فإن الكثير من سياسات ترامب ترمي إلى فعل نقيض ما كانت تفعل إدارة أوباما على الصعد الداخلية والخارجية. فشل «أزرق أبيض» ومهما يكن الأمر فإن إعلان بومبيو جاء متزامناً تقريباً مع فشل زعيم «أزرق أبيض»، بني جانتس في تشكيل ائتلاف مناهض لنتنياهو. كما أعقب قراراً مهماً أصدرته محكمة العدل الأوروبية يقضي بوسم منتجات المستوطنات في الضفة الغربية وتمييزها عن منتجات «إسرائيل»؛ باعتبارها منتجة في أرض محتلة. كما جاء فور فشل أمريكا والاحتلال في إجبار العالم على إنهاء تفويض وكالة الغوث وإقرار الجمعية العمومية لتمديد هذا التفويض بأغلبية 170 دولة، ومعارضة أمريكا وربيبتها فقط. وقد أشار بومبيو في مؤتمره الصحفي إلى العديد من الدوافع؛ وبينها قرار محكمة العدل الأوروبية العليا وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 الذي لم تستخدم إدارة أوباما حق النقض (الفيتو) ضده. ويمكن القول، من دون مجازفة، إن إعلان بومبيو كان الورقة الأخيرة في يد إدارة ترامب في مواجهتها مع الفلسطينيين، الذين رفضوا «صفقة القرن». ولم تخف إدارة ترامب نيتها تنفيذ «صفقة القرن» من طرف واحد؛ بعد أن عجزت عن توفير الدعم الدولي والتفهم العربي لها. وهكذا فإن إعلان بومبيو هو استكمال لإجراءات خنق السلطة الفلسطينية ولي ذراعها من ناحية، ومحاولة أخيرة لنسف أسس الدعم الدولي للقضية الفلسطينية. وقد سبقت ذلك إجراءات فظة ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وتهشيم مبدأ «حل الدولتين» ورفض الأسانيد الدولية لاعتبار الأراضي الفلسطينية محتلة. تحدي الإرادة الدوليةويمكن الافتراض أن إدارة ترامب في قراراتها المتواصلة ضد الفلسطينيين ومحاباتها للكيان لم تخش ردود فعل كبيرة. فلم يصدر عنها ما يوحي بالخشية من العواقب سوى تحذير رعاياها من التواجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولكن لم تظهر مخاوف من ردود فعل دولية أو عربية تلحق الضرر فعلياً بالمصالح الأمريكية. فهذه الإدارة الشعبوية تعتقد أنه عبر تحدي الإرادة الدولية ومحاولتها فرض إرادتها على العالم تكسب داخلياً وتحشد مريديها في مواجهة الإجراءات الديمقراطية لعزل الرئيس.ومن البديهي أن قرارات إدارة ترامب، وخصوصاً إعلان بومبيو، تثير شهية اليمين الصهيوني للمزيد. وقد رأى هذا اليمين في إعلان بومبيو فعلاً جديداً من نوع خاص يتخطى كل القرارات السابقة. فقد كان الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان شعاراً لدى معظم المرشحين الأمريكيين للرئاسة. كما أن الكونجرس نفسه سبق قبل أكثر من عقد من الزمان وأقر قانوناً لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ لكن الموقف من الاستيطان يعد جديداً بجهة علنيته ولتبريراته خلافاً للمواقف السابقة المترددة والتي تتعلق أساساً بالنظرة إلى الأراضي الفلسطينية واعتبارها محتلة أم «متنازع عليها». وقد حسم إعلان بومبيو الأمر ليس فقط بوقوفه إلى جانب فكرة أنها أرض «متنازع عليها» وإنما أيضاً بتبني الموقف الصهيوني الأشد تطرفاً منها. ومن المؤكد أن الموقف الدولي من الإعلان الأمريكي ينطلق من وجهتين؛ إحداهما القناعة المتولدة من قراءة الواقع المحلي من جهة، ومن الرفض الواضح لادعاء الإدارة الأمريكية الحق في فرض رؤيتها الخاصة على القانون الدولي. ويعرف كثيرون، حتى في الكيان، أن القانون الدولي لا يتغير تبعاً لأهواء دولة مهما كانت حتى لو كانت الولايات المتحدة. كما أن تفسير القانون الدولي لا يرتبط بمواقف هذا الفقيه القانوني أو ذاك وإنما بالإرادة الدولية الجامعة. وهكذا فإن الأمم المتحدة بقراراتها والمحاكم الدولية بقرارتها هي الجهة صاحبة الحق في إعلان قانونية أو عدم قانونية أية خطوات تتخذها الدول. الاستيطان والقرارات الأمميةإن الاستيطان يشكل انتهاكاً للقانون الدولي وفق تفسيرات الأمم المتحدة والمحاكم الدولية. وتستند الأمم المتحدة والمحاكم الدولية إلى معاهدتي لاهاي الثانية عام 1907 وجنيف الرابعة عام 1949 واللتين تقضيان بعدم جواز نقل مواطني دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة وعدم إحداث تغييرات ديموغرافية. وقد جاء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار الفاصل في عام 2004 ليجزم بأن المستوطنات تشكل انتهاكاً فظاً للقانون الدولي. كما أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 والذي لم تستخدم إدارة أوباما حق النقض ضده شدد على لا قانونية المستوطنات. ومن الواضح أن إعلان بومبيو لن يغير لا من قناعة العرب والفلسطينيين ولا من الإرادة الدولية، ولن يؤثر جدياً في المعطيات الملموسة على الأرض. ويقر أمريكيون وصهاينة معتدلون أن قرارات إدارة ترامب تهدد، كما يقول الفلسطينيون، ليس السلام والأمن العالميين فقط وإنما مستقبل «إسرائيل». فكنس مبدأ حل الدولتين لا يبقي أمام الكيان سوى حل الدولة الواحدة التي عليها إما أن تكون دولة عنصرية واضحة أو تنهي الكيان كدولة يهودية. ويثير البعض تساؤلات عن أثر إعلان ضم القدس واعتراف أمريكا بهذا الضم وواقع أنه ورغم الجهود التي بذلت على مدى أكثر من خمسين عاماً لتهويد المدينة ظلت القدس الشرقية عربية بسكانها وطابعها. ولن يغير إعلان بومبيو من واقع وجود الفلسطينيين على أرضهم في الضفة الغربية، فهو يستطيع أن يتلاعب بالسياسة؛ لكنه لن يستطيع تغيير الجغرافيا أو التاريخ. ورغم كل عمليات الاستيطان منذ عام 1967 فإن الفلسطينيين في الضفة الغربية وشرقي القدس يشكلون 87 في المئة من السكان. ورغم تهجير الفلسطينيين عن مناطق 48 في عام النكبة فإن 20 في المئة من سكان الأراضي المغتصبة يصرون على أنهم فلسطينيون؛ لذلك فإن الكثير بانتظار ما سيتقرر على الأرض أكثر مما تخطه المصالح الأمريكية المؤقتة أو الدائمة. helmi9@gmail.com
مشاركة :