رايان بيدج* ما لم تنجح دول مثل إسبانيا في القيام بخطوة تزاوج الإصلاحات الاقتصادية مع تخفيف قيود سياستها النقدية فمن الصعب أن نتصور صمود منطقة اليورو ككتلة واحدة، بعدما فقدت واحداً من أهم لاعبيها وهو الاقتصاد البريطاني.عانت القارة الأوروبية عموماً، وخاصة منطقة اليورو العديد من الأزمات المالية المتعاقبة، بعضها آني والآخر كان اجتراراً للأزمة المالية العالمية، التي لم تتمكن الكثير من دولها من التخلص منها بسهولة، وتمثل المستوى الأكبر منها في الأزمة اليونانية، التي كاد الإفلاس أن يزيلها من الخريطة الأوروبية لولا العون الكبير الذي تلقته؛ بسبب أن أوروبا أدركت أن انهيار اليونان سيقود دولاً أخرى إلى ذلك المستنقع، ويبقى مستقبل الأمور فيها مرتبطاً بشكل وثيق بإيجاد الوسائل اللازمة؛ لضمان فاعلية الاستراتيجية الراهنة لمنطقة اليورو ليس فقط على الصعيد الاقتصادي؛ بل على الصعيد السياسي أيضاً، خاصة بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي شكل تحدياً كبيراً جداً لبقاء الاتحاد وديمومته، بالنظر إلى حجم الاقتصاد البريطاني وتأثيره على العالم. وكما هو معروف تبقى نجومية المشهد الأوروبي حكراً على شخصيات محددة؛ مثل: أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، وماريو دراغي رئيس البنك المركزي الأوروبي؛ لكن إذا أردنا أن ندرك مسار الأمور بشكل دقيق؛ علينا تركيز الأنظار على إسبانيا. فما لم تنجح تلك الدولة في القيام بخطوة تزاوج الإصلاحات الاقتصادية مع تخفيف قيود سياستها النقدية فمن الصعب أن نتصور صمود منطقة اليورو ككتلة واحدة؛ بعدما فقدت واحداً من أهم لاعبيها؛ وهو الاقتصاد البريطاني، وإن كانت العلاقات التجارية لن تتأثر بصورة كبيرة بينهما.نفذ قطاع المصارف الإسباني عملية إعادة هيكلة شاملة ومكلفة، وتراجع عجز الموازنة من 10% من الناتج الإجمالي المحلي إلى 5% عام 2009؛ لكن الإسبان دفعوا ثمناً باهظاً لذلك التحول، تمثل في تراجع معدلات الدخل الحقيقية بنسبة 5% وعمّت البطالة أرجاء البلاد. ومن الطبيعي أن تصب تلك المعاناة في مصلحة الاقتصاد الإسباني، الذي سجل معدلات نمو بنسبة 2% منذ الربع الأول من عام 2009 في حين توقف الانتعاش في معظم دول منطقة اليورو. ورغم المؤشرات الأخيرة على ضعف زخم نموه، لا يزال الاقتصاد الإسباني، ورغم الأزمات، التي يعانيها من فترة لأخرى، مرشحاً لاحتلال صدارة الاقتصادات الأوروبية خلال السنوات المقبلة إلى جانب العملاق الألماني. وربما يلاحظ صنّاع القرار الألمان، أن هذا التقدم أنجز بالرغم من تدني الأسعار. وربما تكون إسبانيا الدولة الوحيدة التي سجلت معدلات تضخم سلبية في الأعوام، التي تلت الأزمة المالية العالمية؛ لكن استثمارات الشركات استمرت في الزيادة خلال عام 2013 بينما استمرت في التراجع في كل من فرنسا وإيطاليا. ولهذا فإن الدرس المستفاد من التجربة الإسبانية يتمثل في أن الانكماش ينبغي ألا يكون نهاية العالم عندما ينتج عن إصلاحات جذرية تجعل الشركات أكثر تفاؤلاً حول النمو.لكن هذه الصورة لا تخلو من بعض المشاكل المالية، فرغم تشديد الحكومة من إجراءاتها التقشفية منذ الأزمة التي عانتها القارة في 2014، ويقول الساسة الأسبان إن خطط الموازنة ربما تكون مطلوبة جداً حالياً؛ لمواجهة التحديات المستقبلية، التي يمكن أن تلعب فيها الدولة دوراً كبيراً إلى جانب ألمانيا في توفير الاستقرار اللازم لكتلة منطقة اليورو، خصوصاً في ظل العديد من المستجدات، التي تتمثل في تدفق المهاجرين بكميات كبيرة، وخروج بريطانيا وغيرها من الأحداث. وهذا يقودنا إلى المشكلة الأكثر بروزاً في الصورة؛ وهي السياسة، فعند بداية عام 2014 لم يكن لحزب اليسار الراديكالي «بوديموس» أي وجود يذكر في الخريطة السياسية الإسبانية أما اليوم فهي الحركة السياسية الأكثر شعبية في أوساط الإسبان.وربما يقول ماريو دراغي، إن معدلات النمو الإسبانية الأسرع تكشف أهمية استخدام المعطيات المالية في المناورة؛ لتسهيل تنفيذ الإصلاحات الهيكلية. وربما يرى آخرون أنها تكشف الثمن السياسي لاستراتيجية ضغط الاقتصاد والميزانية في مرحلة ما بعد الأزمة. ولكن لا شك في أن من حق كل طرف تفسير الظاهرة الاقتصادية بما يخدم وجهة نظره؛ لكن الحقيقة أننا جميعاً غير قادرين على معرفة ما قد تؤول إليه الأمور. وهذا ينطبق على منطقة اليورو بأسرها. وبينما طغى التشاؤم على أسواق المال العالمية لفترة طويلة؛ بسبب ما يجري في العالم، فإن هنالك الكثير مما يدعو للتفاؤل رغم الحرب التجارية الحالية، التي يقودها ترامب على اقتصادات كبرى.لا يزال صنّاع القرار في الدول الأعضاء في منطقة اليورو غير مقتنعين بجدوى هذه العناصر مجتمعة، وحتى في بيئة تنعدم فيها معدلات التضخم يأمل هؤلاء أن تكون منطقة اليورو وحكوماتها المرتبكة على مسار قابل للاستمرار مالياً وسياسياً. وليس هنالك من اختبار أدق من اختبار خروج بريطانيا والحرب التجارية خلال الفترة المقبلة. * كاتب مقال في «بلومبيرج»
مشاركة :