لا تحتفي فرنسا بالفن المعاصر داخل أروقة المتاحف والمعارض المغلقة فقط، بل في أماكن طبيعية مفتوحة تكتسب قيمة جمالية ورمزية كبيرة، كما الحال اليوم في منطقة وادي نهر «اللوت»، حيث تقام تظاهرة فنية جديدة دعا إليها «بيت الفنون المعاصرة» الذي يحمل اسم الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو وزوجته كلود. عنوان هذه التظاهرة «مسار الفن المعاصر/ ميزان الأودية»، هو في الأصل عنوان أغنية لمغنية الجاز الراحلة والمناضلة السياسية ميريام ماكيبا. تتمحور التظاهرة حول أعمال خمسة فنانين تشكيليين هم على التوالي: محسن حراقي من المغرب، فيصل بغريش من الجزائر، أوريديس كالا من موزمبيق، لوسي لافلورانتي من فرنسا ودانا وابيرا من زمبابوي. يتبع عرض أعمال هؤلاء مساراً متعرجاً داخل وادي منطقة «نهر اللوت» جنوب- غرب فرنسا. الأعمال معروضة في الهواء الطلق وتتداخل مع المشهد الطبيعي في حوار من نوع خاص يعكس تجربة الفنانين المشاركين ومسارهم المتنوع بين أفريقيا والغرب. ويبدو للوهلة الأولى، كيف أن هؤلاء الفنانين الآتين من مناطق مختلفة يتفاعلون مع عناصر المكان هناك وكيف يطوّعون تقنياتهم ليعبّروا عن أفكارهم وتصوراتهم في سياق تجربة جديدة يحتل البعد الجغرافي فيها موقعاً مهماً. تتعدد أبحاث هؤلاء الفنانين وتتنوع وثمة تقاطعات بينها من خلال الاعتماد على الصورة الفوتوغرافية والتجهيز والفيديو. وجميع الأعمال، هنا، تذهب في اتجاه مشترك آخذة في الاعتبار العلاقة بين المشهد الطبيعي والهندسة المعمارية، بين العلوم واللغة، وبين مفاجآت الحياة اليومية وأصداء التاريخ المرئي وغير المرئي لمجتمعنا المعولم. وهكذا تعكس هذه التظاهرة تعددية مرجعية الفن المعاصر في القارة الأفريقية والشتات، كما تعكس أيضاً تجارب الفنانين الخمسة في علاقتهم مع الموروث الفني وفي نظرتهم إلى مستقبل مركّب حيث الفن منبع متعدد الدلالات. وكان الفنانون، وبدعوة من «بيت الفنون المعاصرة»، قد أقاموا ثلاثة أشهر في محترفات تقع في قرية «سان سير لا بوبي» التي شيدت في مرحلة القرون الوسطى وافتتن بها الشعراء والفنانون وفي مقدمهم عراب السوريالية أندريه بروتونا الذي اقتنى بيتاً هناك عام 1951، وقد تحوّل حينها إلى محجّ للفنانين والأدباء. وجاءت أعمال الفنانين المشاركين في التظاهرة اليوم لتتوزّع في الأماكن التي احتضنتهم طوال فترة إقامتهم هناك وتشرّبهم لروح المكان الذي يعد أحد أجمل الأمكنة في فرنسا. يحضر الفنان محسن حراقي) مواليد أصيلة عام 1981 (من خلال عدد من الأعمال والتجهيزات أبرزها الأشجار التي تنتهي أغصانها بحجارة تحمل كتابات عربية. ولقد علق أحد هذه الأعمال على الجدار الخارجي في أحد المباني الأساسية في القرية حيث طالعتنا عبارة بالعربية جاء فيها: أنا ضيف على نفسي». محسن حراقي الذي يعتبر أن عمله ينطلق بصورة أساسية من الذاكرة والمتخيل يقول إن العمل في قلب الطبيعة تختلف شروطه عن العمل داخل المحترف، وكذلك بالنسبة إلى عملية التلقي عند الزوار الذين يتعاطون مع الأعمال المبعثرة في المكان كأنها جزء منه. من جهة ثانية، تأتي مشاركة الفنان الجزائري فيصل بغريش (مواليد سكيكدة عام 1972) من هاجس إضفاء نظرة شعرية للواقع. ولقد سعى على حد قوله أن تحتل أعماله مكانها ضمن الحيز العام للمشهد الطبيعي، بل والذوبان فيه فلا تبدو وكأنها خارجة عنه. اللافت في هذه التظاهرة الفنية الحضور العربي المتمثل في هذين الفنانين وفي اللغة العربية الحاضرة سواء من خلال العبارة الظاهرة للعيان في قرية سان سير والتي أتينا على ذكرها أو من خلال أعمال الفيديو والتجهيزات التي قاما بها.
مشاركة :