يقع مهرجان فينيسيا بين موسمين حافلين ومهمّين ومتتاليين؛ الأول موسم الصيف الذي تبني عليه السينما الأميركية أرطالاً من الآمال، والثاني موسم الخريف والمعروف بـ«موسم المهرجانات». في الأول تنفجر الشاشات بصخب وضجيج الأفلام الكبيرة وهي تتنافس على التقاط الحيز الأكبر من الجمهور العالمي. في الثاني تتراجع تلك الأفلام الضخمة وذات الغاية التجارية وحدها إلى الوراء وتنطلق بدلاً منها الأفلام التي تسعى لكسب الجوائز المختلفة؛ بدءاً من جوائز «الأسد الذهبي» الذي يمنحه المهرجان الإيطالي الكبير، وصولاً إلى جوائز الأوسكار في فبراير (شباط) من كل عام. على أن شيئاً مهماً وقع هذا العام له علاقة بتغيّر هذه الفصول كما بوضع السينما، صناعة وإنتاجاً، بوجه عام. - عودة الثقة خلال فصل الصيف المنتهي قبل أسابيع قليلة، ارتفعت إيرادات الأفلام التي عرضت في ما بين منتصف مايو (أيار) ونهاية أغسطس (آب) بنسبة 12 في المائة عن إيرادات صيف العام الماضي. هذا العام، بدأ الموسم بالجزء الثاني من فيلم الكوميكس «Deadpool» الذي جمع سريعاً 734 مليون دولار عالمياً. في أعقابه حصد فيلمان آخران أرقاماً متقدّمة هما «Jurassic World: Fallen Kingdom» و«Mission: Impossible - Fallout». فيلم الديناصورات سجل مليارا و290 مليون دولار، بينما بلغت إيرادات الفيلم الثاني 502 مليون دولار، علما بأن عروضه التجارية ما زالت سارية إلى اليوم ومتوقع لها أن تتجاوز، مع نهاية هذا الشهر، 650 مليون دولار. ولم تتوان سينما الرسوم المتحركة عن تحقيق نتائج إيجابية أهمها تلك التي أنجزها الجزء الثاني من «Incredibles». هذا الفيلم سجل ملياراً و121 مليون دولار. ومع الأفلام الثلاثة المذكورة آنفاً يتكوّن مجموع رهيب من الإيرادات يتجاوز 3 مليارات و500 مليون دولار. لا عجب إذن أن إيرادات موسم الصيف تجاوزت المتوقع خصوصاً إذا ما جمعنا إيرادات باقي الأفلام التي عرضت في الفترة ذاتها، ما يجعل المجموع الكلي يخترق سقف 5 مليارات دولار. هذا الوضع أعاد الثقة مجدداً بسينما الصالات التجارية. تلك الثقة التي اهتزت عميقاً عندما هبطت إيرادات صيف العام الماضي على نحو ملحوظ وبشكل أثار مخاوف شركات الإنتاج الكبرى كما صالات السينما حول العالم. ما أنقذ سنة 2017 من نهاية وخيمة حركة عروض نشطة في الشهرين الأخيرين من السنة. في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) أنجز «Justice League» نجاحاً لا بأس به قدره 615 مليون دولار، وفي الشهر التالي قام «Star Wars: The Last Jedi» بسحب مليار و332 مليون دولار من جيوب عشاق هذا المسلسل. ضمن هذا الوضع تحديداً يأتي مهرجان فينيسيا بوصفه حلقة وصل بين موسمين زاخرين؛ الأول وأفلامه محض التجارية، والثاني باختياراته الفنية المتنافسة للوصول إلى جوائز العام الصغيرة منها والكبيرة. ما داوم هذا المهرجان المحتفي بمرور 75 سنة على إنشائه فعله خلال السنوات الست الأخيرة، تلك التي ترأسها الناقد السابق ألبرتو باربيرا، هو أكثر من مجرد جمع أفلام جيدة يفخر روّاد المهرجان بمشاهدتها. لقد وضع المهرجان على مشارف موسم الجوائز ثم عمد، في العامين الأخيرين وهذا العام على الأخص، إلى تقوية هذا الوضع بحيث لم يعد يمكن تجاهله في هذا الشأن. في الأعوام الأولى لقيادة باربيرا الناجحة لهذا المهرجان، كان كثير من صانعي الأفلام وموزعيها يفضلون اختصار الطريق من عواصمهم إلى مهرجان تورنتو الكندي كونه الأقرب إلى الولايات المتحدة؛ من جهة، و - تقليدياً - الإعلان الأول عن بدء موسم الجوائز. بعد ذلك، وفي غفلة من المهتمين، استطاع رئيس المهرجان تحويل الدفة إلى مهرجانه بتدرّج سريع حتى بات هو الإعلان الأول لبدء موسم الجوائز والمحطة التي بات لا يمكن تجاهلها في مسيرة المهرجانات والمناسبات السنوية اللاحقة. - عوامل خارجية وساعدت الظروف الخارجية قليلاً. بالتحديد قيام مهرجان «كان» المقيد بشدة من قبل جمعيات المنتجين والموزعين وأصحاب الصالات الفرنسيين برفض أفلام شركات العروض المنزلية، كان الفرصة الذهبية التي ينتظرها مهرجان فينيسيا ليزيد من ثقة صانعي الأفلام به. هذا العام تعرض شركة «نتفلكس» 6 أفلام على جزيرة الليدو وفي أقسام المهرجان المختلفة؛ من بينها 3 أفلام في المسابقة وهي «روما» لألفونسو كوارون (بالأبيض والأسود)، و«على بشرتي» لأليسو كرمونيني، و«أنشودة بستر سكراغز» للأخوين كووَن. كل هذا والمهرجان لم يضطر لتعريض اختياراته لأي اهتزاز نوعي. بكلمات أخرى، داوم المهرجان على اختيار ما هو أفضل المنتج من الأفلام، خصوصاً تلك التي فاتها الاشتراك بمهرجاني برلين أو «كان» السابقين. بذلك تم عملياً تقسيم السنة إلى نصفين: نصف يحتوي على المهرجان الألماني والمهرجان الفرنسي، والنصف الثاني يتصدره مهرجان فينيسيا وحده ويقع، كما شرحنا، في ذلك المفصل المهم بين تياري السينما النوعي والجماهيري. واحد من الدلائل المهمّة التي تستدعي الانتباه هو تفضيل استوديوهات هوليوود الكبرى المتزايد الاشتراك بالمهرجان الإيطالي عنوة عن منافسيه الاثنين. نلاحظ هنا مثلاً أن شركة ضخمة مثل «وورنر» توقفت عن إرسال أفلامها إلى «كان». آخر فيلم لها عرضته في المسابقة الفرنسية كان «غاتسبي العظيم» للأسترالي باز لورمان (ما زال آخر أفلامه) الذي لم يحز جوائز تذكر لا في «كان» ولا في سواه. عامل آخر خارجي يساعد المهرجان الإيطالي هو أن هذه الشركات الكبرى، وفي الحقيقة كل الشركات المنتجة، تريد لأفلامها أن تتمتع بالأضواء الإعلامية لا في الأشهر الممتدة من مطلع السنة إلى منتصفها، بل تلك الممتدة من منتصفها حتى آخر السنة. هذا لأن الزخم الإعلامي مرتبط تلقائياً بالعد التدريجي لجوائز «غولدن غلوبس» و«البافتا» و«الأوسكار». لهذا تسعى الشركات السينمائية للاستفادة من الهالة الإعلامية الكبيرة التي تسلط أضواءها على أفلام هذه الفترة من السنة وليس أفلام الفترات السابقة. في هذا الشأن، بات تورنتو مكملاً، على نحو أو آخر، لمهرجان فينيسيا. كثير من الأفلام التي تعرض هنا تسارع بالانتقال إلى مهرجان تورنتو الذي يبدأ عروضه في الثامن من الشهر المقبل، أي قبل يومين من انتهاء المهرجان الإيطالي. وهذا يحدث على مستوى الأفلام الأميركية كما الأجنبية، لأن الجميع يبحث عن تلك المنطقة العليا من النجاح في هذا الموسم النشط.
مشاركة :