مخرجان عائدان من الظلال التي اختبآ تحتها لفترة طويلة، هما الألماني هنكل ڤون دونرسمارك، والأميركي جوليان شنابل، وها هما يتنافسان على ذهبية مهرجان فينيسيا التي ستعلن يوم غد (الأحد). دونرسمارك كان حقق أهم أعماله في عام 2006 عندما قدّم «حياة الآخرين» ودفع به ليحوز جوائز كثيرة أخرى، من بينها أوسكار وبافتا أفضل فيلم أجنبي. بعده غاب لفترة وعاد في سنة 2010، ليقدم عملاً كوميدياً لم يثر اهتمام أحد عنوانه «السائح» مع أنجلينا جولي وجوني دَب في البطولة. الآن هو في عداد المشتركين في مهرجان فينيسيا بـ«لا تنظر بعيداً أبداً» (Never Looks Back)، وهو فيلم ألماني الإنتاج على عكس «السائح» الذي حاول فيه تنفيذ حلم هوليوودي، وخرج منه بفشل تجاري ذريع، وآخر فني أقل مما طمح إليه. لا يحاول دونرسمارك التصالح مع التاريخ بل نبشه، لكن هذا التاريخ هو الوجهة التي يتولاها جوليان شنابل في «عند بوابة الأبدية»؛ إذ يتناول سنوات حياة الفنان غوخ الأخيرة، والأكثر إثارة لدى صاحبها؛ كونها السنوات التي بلغ فيها شعوره بالعزلة والقلق إلى حد الجنون. - ساموراي كلا المخرجين يقف إلى جانب 19 مخرجاً آخر بانتظار حكم لجنة التحكيم يوم غد. شاهدت اللجنة 21 فيلماً مشتركاً في المسابقة الكثير منها يستحق الخروج بجائزة ما، ومعظمها نتاج مخيلات بديعة في الأساس، سواء أنجزت حقاً ما هو بديع أو أقل من ذلك من الأعمال السينمائية. يقود لجنة التحكيم المخرج المكسيكي غويلرمو دل تورو، وتضم المخرج الإيطالي باولو جينوفيز والمخرج النيوزلندي تايكا وايتيتي، وعدداً من النجوم بينهم ناوومي ووتس وكريستوف فولتز. لا جينوفيز ولا وايتيتي لديهما خبرة دل تورو، لكن الحكم لن يستند إلى الخبرة فقط، بل إلى حسن غربلة حسنات وسيئات كل فيلم، وصولاً إلى تلك التي لا يمكن - نظرياً على الأقل - التغاضي عن حسناتها التي ستتقدم لنيل واحدة من الجوائز الموعودة: هناك جائزة لأفضل سيناريو، أخرى للجنة التحكيم الخاصة، وثالثة لأفضل ممثل، ورابعة لأفضل ممثلة، وجائزتان هما محط الاهتمام الأكبر: جائزة الأسد الذهبي وجائزة الأسد الفضي. «كل ذلك رذاذ في العيون»، يقول ناقد إيطالي ليلة أمس؛ ما يستدعي سؤاله توضيح مقصده: «المهرجان لم يصبح بهذا الحجم من الأهمية، ولا بتلك الدرجة من النجاح إلا بعد تنازلات». ويضيف «يأتون بأفلام النجوم ويريدون تأمين أفلام تسر الناظرين من جمهور شاب لا يعرف أياً من المخرجين المشتركين، بل يدخل للتصفيق حتى من قبل أن يبدأ الفيلم». بعض هذه الشكوى حقيقية، بل ربما كلها، وتتأكد مع جمهور يصفق فعلياً قبل بدء الفيلم، خصوصاً ذلك المنتمي إلى نوع مثير كما حدث ليلة السادس من هذا الشهر عندما بدأ فيلم «قتل» (Killing) عرضه بموسيقى من قرع الطبول اليابانية ذات الدوي العالي فإذا بنحو مائة من المشاهدين يبدأون التصفيق إعجاباً بالموسيقى، ثم يستمرون مع كل اسم ممثل وكلهم من الممثلين غير المشهورين. - حروب صينية عادة ما يعرض المهرجان فيلماً يابانيا أو صينياً من النوع المحارب. هذا العام عُرض فيلمان، هما هذا الفيلم وفيلم جديد لجانغ ييمو عنوانه «يينغ» (أو «ظل» بالعربية) عرض خارج المسابقة. لقد مضت أعوام كثيرة منذ أن أخرج ييمو واحداً من تلك الأفلام ذات المضامين المنتقدة نظام القمع في الصين. ليس ضرورياً أن تلك الأفلام كانت تدور في تاريخ ماض وليس حديثاً، المهم أنها كانت تحمل رسالات مثيرة للاهتمام، وتنفيذاً تحت بطانة فنية بديعة. لكن الرجل قرر قبل أكثر من عشر سنوات الانضمام إلى الركب وتقديم أفلام سيوف ضاربة وسهام طائرة. بعد أفلام مثل «بطل» و«منزل الخناجر الطائرة» ها هو يعود بهذا الفيلم الآخر من النوع المحارب. طبعاً، ما زال ييمو يملك تلك الطاقة الرائعة والقدرة على تنفيذ مشاهد القتال بحيوية وبراعة تصميم. وهو يحتاج إليهما هنا لأن الحكاية بحد ذاتها تبدو، من فرط تشابهها بما حققه ييمو وآخرين في إطار السينما الصينية، تقليدية أو على الأقل معهودة. هناك مضمون سياسي كامن في حكاية الملك الطموح الساعي للبقاء في الحكم والجنرال الذي يود أن يحل محله. تداعيات هذا الصراع دامية، لكن المخرج يبنيها بالتدرج وبلا استعجال، وما يؤذي هذا الإيقاع اضطرار ييمو إلى الاعتماد على الحوار كسبيل شرح للمواقف. - «فينيسيا» يحظى بترحيب النقاد إذن، هي الساعات الأخيرة ومهرجان فينيسيا تمتع خلال الأيام العشرة الماضية بترحيب شديد من النقاد لاختياراته المميزة. نصفها، كما سبق لنا القول في رسالة ماضية، لم تتم لولا أنه سمح بلا أي ممانعة بدخول شركتي «أمازون» و«نتفليكس» عرين المسابقة (وبعض التظاهرات الأخرى) بكل قوّة. الأمر الذي لم يستطع مهرجان «كان» مجاراته فيه، ولا يبدو أن برلين قادر على المنافسة فيه على النحو الكبير ذاته. هذا هو واحد من الأسباب التي جعلت دورة «فينيسيا» الخامسة والسبعين أعلى نجاحاً من سواه، ومن غالب الدورات الماضية. سبب آخر، هو أن «فينيسيا» بات مطلباً بحد ذاته أكثر من أي وقت مضى. الباقي قد يكون محض صدفة؛ فمعظم المخرجين أنهوا أعمالهم في الوقت المناسب للاشتراك. بعضهم، مثل مايك لي صاحب الفيلم البريطاني «بيترلو» الذي كان حضّر هذا الفيلم لمهرجان «كان»، لكنه لم يكن منجزاً نهائياً عندما أقفل المرجان الفرنسي أبواب قبول طلبات الاشتراك. - أعمال تاريخية «بيترلو» قد لا يفوز بالذهبية، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ميول رئيس لجنة التحكيم التي تحدو به لفيلم أقل كلاسيكية من عمل المخرج البريطاني. شيء مثل «غروب» الذي لا يقع في تاريخ ما قبل الحرب العالمية الأولى فقط (كشأن «ووترلو»)، بل يتميز بحركة كاميرا نطناطة ومساحة عريضة من الاحتمالات عوض سرد التاريخ كما وقع فعلياً. «غروب» للمخرج لازلو نيميش يشبه فيلمه السابق «ابن شاوول» من حيث الأسلوب العريض والعام: التركيز على محنة شخصية واحدة محاطة بمئات الأشخاص الذين لا أهمية لهم بالنسبة للأحداث. مجاميع تمر في الأسواق أو تتظاهر وشخصيات أخرى لها أدوار تدخل وتخرج من السياق متى شِيء لها. ضجيج متعالٍ مع تفعيل شريط الصوت ليضم أي شيء ممكن ضمه وفي وقت واحد: صوت مطرقة، صوت عجلات عربة أو حوافر الجياد، أو خليط من أصوات أخرى لا تحديد لها. فوق ذلك صوت خطوات بطلة الفيلم وهي تنشد البحث عن أخيها منتقلة ما بين شخصيات عرفته، لكنها لا تود الإفصاح عن مكانه. الفيلم من نحو ثلاث ساعات (كشأن معظم الأفلام التي عرضت في المسابقة) مصوّر بالأبيض والأسود وبكاميرا فيلم وليس بكاميرا ديجيتال. هذا كله حسن لولا أن المشاهد تتكرر من دون إضافة جديدة بالضرورة. خذ مثلاً المشاهد التي تلاحق الكاميرا فيها بطلة الفيلم في كل مرة تخرج فيها من مشهد داخلي إلى آخر خارجي. تسير بتؤدة وعزيمة حتى عندما لا يكون لديها علم إلى أين هي ماضية. الكاميرا في كل هذه المشاهد والحالات تلحقها في لقطة خلفية متوسطة. دائماً على البعد نفسه وبالحجم ذاته؛ ما يجعل من البديهي القول إنه لو تخلى المخرج عن نصف هذه المشاهد المتكررة لاستطاع توفير فيلم من نحو ساعتين وبع الساعة أو نحوها. لكن، هذا لا يعني أنه الأكثر حظوة من سواه. فيلم جوليان شنابل «عند بوابة الأبدية» قد يخطف السعفة؛ كونه أكثر الأفلام المعروضة تميزاً بجمالياته وسياقه الشعري ومعالجته الفنية المواكبة لموضوعه حول فن وشخصية الرسام ڤان غوخ في سنوات حياته الأخيرة. الأفق في هذا اليوم، الأحد، عريض وقابل لاحتمالات كثيرة. لكن الثابت أن الجوائز التي ستعلن مساء ستحمل مفاجآت سارة محسوبة أو غير محسوبة.
مشاركة :