آلت الرواية الجديدة على نفسها، وهي تسعى للتشكّل أن تسلك مغامرة التمرد على الأشكال القديمة، فجدّدت أسئلتها المتصلة بواقعها الرّاهن وبالذّات المتشكّكة والقلقة الغارقة في البحث عن هويتها، بعيدة عن الوصايا الأبوية، وكان التجديد الأبرز في طرائق كتاباتها، فتوسلت بأدوات مغايرة في كيفية القول، عمّا كانت عليه الكتابة قبل نصف قرن في رواية نائل الطوخي “الخروج من البلاعة”، نحن أمام نص حداثي يمتثل في أسلوبه لطرائق الكتابة الجديدة، ولو قرأناه من منظور الحكاية السردية، فهو نص حكائي بامتياز، يحكي عن هزائم حورية إسماعيل عبدالمولى، الشخصية المحورية للنص التي يبدأ منها وينتهي بها في السجن ترعى شجرة التوت وتغزل الحرير، وتحرر الفراشات لتطير، مع صدمات الواقع لها وهزائمها على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام وكذلك فجائعها مع الثورة ومع أزواجها وأيضا في أصدقائها، حيث اكتشفت في النهاية خيانة صديقتها هند وأنها كذبت عليها أكثر من مرة. حكايات متوازية حورية إسماعيل عبدالمولى هي نموذج للشخصية النمط، ليس فقط في أزماتها وإنما في تكوينها، وصولا إلى تلك الفاجعة التي أقدمت عليها عندما أطلقت النار على الدكتور طارق. نمطية الشخصية تأتي من تشكُّلها والظروف المحيطة بها، وكيف نشأت في أسرة هذا الأب الذي صدمته زوجته في أقرب أصدقائه ناجي وأخبرته بأن صديقه يعاكسها. قالتها ببلادة دون أن تراعي في جملتها أثرها القاتل-لحظتها -على الزوج، كما قتلت صداقتهما، وصولا إلى حكايتها مع عم ناجي أبيها الروحي، الذي لعب دورا محوريّا في حياتها سواء برفضه دخولها المدرسة العسكرية، أو أيضا بتعليمها ضرب الرصاص وتحديد الهدف، ثم دوره بعدما لجأت إليه في حيرتها واهتزازها في الثورة التي شاركت فيها، وإن كان لم يجد أسلم مِن أن يطلق رصاصة على نفسه ليحمي نفسه من نظرة عدم تصديق للحكاية التي أعادها على ابنة صديقه. إحدى التقنيات التي لعب عليها الراوي ونجح فيها، هي التوازي بين حكاية حورية إسماعيل عبدالمولى، بكل مآسيها وتعرجاتها، مع حكاية الثورة وهزائمها المتلاحقة. فحورية المهزومة تتوازى مع الثورة المهزومة. بل ليلقي برؤية كابوسية تجعل من حورية تدخل السجن، في إشارة إلى المتاهة التي وصلت إليها الثورة، وكأنها دخلت في سراديب السجن. حضور الثورة يأتي بوصفها ملاذا كان ينتظره الكثيرون، إلا أن هذا الملاذ صار كابوسا على كل مَن اشترك فيها. الغريب أن البطلة في حكايتها المضمرة عن وقائع الثورة كانت تدين الثوار كما أدانت مَن سعوا إلى إجهاضها، بل استغلتها في تحقيق انتقامها من هيثم ابن زوجها وقتلته انتقاما لمقتل ابنها محمود. وهو ما يشير إلى دلالة فداحة مَن استغلوا الثورة لتحقيق مآربهم الشخصية. مَن يروي النّص https://www.youtube.com/watch?v=AcPSN-84-7A التوازي بين حكاية البطلة بكل مآسيها، مع حكاية الثورة وهزائمها مثلما كان سؤال: مَن الراوي؟ هو محور كتابات المعنيين بعلم السرد والسرديات خاصة لوبان الذي قدّم تقسيمات مهمّة للرواة ودرجة حضورهم في النص، فالسؤال ذاته هو سؤال الرواية الأساسي. منذ المقدمة التي وضعها الكاتب للنص على غير عادة الروائيين في الفترة الأخيرة، نرى صورة راو مفكّر متأمّل، يربط بين حياة الإنسان وحياة المدينة. فكلتا الحياتين تتشابهان، وكأنهما بحر كبير، عبر هذه المقدمة الفلسفية غير المنفصلة عن المتن الروائي، والتي يمهد بها الرّاوي الغائب لشخصية حورية وحكايتها التي هي محور النص. فالمقدمة ترتبط بفصول الرواية الأربعة التي حمل كل فصل منها عنوانا مجازيا يعود على إحدى الشخصيات داخل النص. وقبل أن تنتهي المقدمة نفاجأ بصوت حورية عبر تساؤل: هل أَنْسِبُ الفضل للجرثومة أم لكمال أم لنفسي أم للحياة؟ ويجيب الراوي الغائب القريب منها: ولا تجيب أبدا. هكذا يتداخل الصوتان، ليدخل بنا النص في متاهة سردية عمّن يروي الحكاية، التي تأتي بعض أجزائها في السجن وحورية تروي لمروي عليهم/السجينات البعض مما جرى ولكن بلا تفاصيل، حتى تنتهي الرواية في الفصل الرابع لنعرف دخول حورية السجن بعد قتلها للدكتور عاطف. كما أن صوت حورية الذي بدأ في الظهور مع آخر سطر في المقدمة، لا يتوقف بل يستمر ويأخذ حيزا مميزا في السرد عبر مقاطع سردية تروي بالأنا التي تحمل كل صفات التشظي والضياع (ضياع الزوج/ ضياع الابن/ ضياع الزوج الثاني/ ضياع الاستقرار المتمثل في شقة/ ضياع الوظيفة)، عن علاقاتها وارتباطها بزوجها الأوّل ثمّ علاقتها بكمال وعلاقتها بهند. الراوي الغائب الذي ينوب عن حورية في سرد الحكاية منذ بدايتها، لا يأخذ صفة الرّاوي الشّاهد أو حتى القريب من الشخصية، وإنما يروي بصيغة الخطاب غير المباشر، وكأنّ الحكاية أُلقيت عليه ثمّ يقوم بِرَوْيها من جديد، فمع بداية سرده يروي عنها وعن علاقتها بالمدرسة وحالة الكآبة التي حلّت على البيت بعد وفاة زوجها المنتحر، ثم انسحاب الكآبة بفعل الطلبة الذين كانت تعطي لهم الدرس في بيتها حيث “بعد أن زارها الطلبة تبدّل الحال بعض الشيء، تخلخلت الكآبة وبدأت تنسحب، ومعها بدأ ينسحب هدوء حورية النفسي”، ثم فجأة ينقل هذا الراوي عن حورية، هكذا “ومع بداية الخريف قالت: إنها لم تَعُد تحتاج الطلبة في بيتها، قالت لأرضى بما قسمه الله وخلاص”. يتكرّر حضور الخطاب غير المباشر المروي عبر الراوي الغائب كثيرا داخل النص، فثمة تلاعب حقيقي بالضمير السارد، فتارة يكون الخطاب مباشرا عبر راو غائب، يتحوّل فجأة إلى خطاب غير مباشر، وفي نفس المقطع نكتشف الأنا أيضا تروي هكذا “كلمها البواب وقال إنّ هناك مشتريا يريد رؤية الشقة. قالت له حلو، إمتى؟ فقال بعد بكره. كلمت أم حسين وطلبت منها أن تأتي اليوم أو غدا تنظف الشقة؛ لأن هناك مشتريا لها. وأتت في اليوم التالي فعلا. تقابلتا أمام العمارة، وصعدتا معا، ودخلت حورية وانقبض قلبها لرؤية الشقة بلا شيء، لا عفش ولا أجهزة”. تظهر هنا تبدلات الخطاب الروائي من خطاب مباشر إلى خطاب غير مباشر، إلى أنا، بل ثمّة إمكانية إعادة المقطع كله بصيغة الأنا دون خلل، وهو ما يكشف عن حالة من نزعة الألفة أي التغريب، كما هو عند الشكلاني شكلوفسكي. وبعد هذا الخطاب السردي المتنوع يعود الراوي الغائب إلى السرد المباشر وهو يخبرنا عن التحولات التي حدثت في حياة حورية هكذا “تسارعت حياة حورية بشكل خاص في الفصل الدراسي الأول من عام 2010-2011”. اللافت أن الراوي بهذه الصيغة يصبح قريبا من المروي عنها حورية أو حرنكش ثم يأتي الحكي لمخاطبات في السجن، حيث تمرر الكثير من الحكاية على أنها مروية في السجن فكأنها استعادة ملكة الحكي وهي تروي لزميلاتها داخل السجن. لا تختلف اللغة السردية المكتوب بها النص في تعددها عن الراوي، فمستوى اللغة لا يسير على وتيرة واحدة، وإنما يجمع سمات خطابية تعكس حالة الواقع الاجتماعي والفترة السياسية المضطربة والملتهبة، ومن ثم تحضر اللغة التي تتصل بالواقع، في تمثلها للخطاب الشفاهي، وإن كانت مدمجة في اللغة السردية الفصيحة، وكأن الرواية تستثمر اللغة بكل معطياتها في إبداع خطاب روائي مُتصل بالواقع المضطرب والمحبط. ونذكر أن رواية “الخروج من البلاعة” لنائل الطوخي صدرت عن دار الكرمة للنشر والتوزيع بالقاهرة 2018.
مشاركة :