دور دراسات استشراف المستقبل في تعزيز الاستقرار الاقتصادي

  • 9/3/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في المقال المنشور بجريدة «أخبار الخليج» بتاريخ 2 يوليو 2018. والمعنون بـ«السياسات الاقتصادية في البحرين وضرورة الدراسات المستقبلية الساندة لها» خلصنا إلى أنه من المهام الرئيسية المنوطة بها الدولة في إدارة مواردها العامة أن تعد دراسات متخصصة في استشراف المستقبل مصحوبة بالتنبؤات الإحصائية حول كيفية تطور الإيرادات والنفقات المالية وعجز المالية العامة، ووضع الدين العام مع مرور الوقت، وأن تزود صناع القرار في الوزارات والجهات الحكومية بهذه المعلومات بحيث يكون في وسعهم تحديد إذا كانت الحاجة تستدعي إدخال تعديلات في السياسة المالية أو أي من السياسات المكونة للسياسة الاقتصادية للبلاد، وفي أي وقت تكون الحاجة ماسة إلى تلك التعديلات للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي، ومن ثم إعلان ذلك لقطاع الأعمال والمواطنين مبكرا، باعتبار أنهم الذين سيتحملون نتائج تلك السياسة. فماذا نعني بدراسات استشراف المستقبل؟ وما أهميتها؟ هذا ما نسلط عليه الضوء في مقالنا اليوم. يعرّف استشراف المستقبل بأنه عملية تبني المنهجيات والأساليب العلمية التي تحاول التنبؤ بالتطورات التي ستحدث في المستقبل، في ضوء جملة من المعطيات الراهنة، وتقليل نسبة الغموض وعدم اليقين، لأجل الاستعداد والتخطيط المسبق للتعامل مع تلك التطورات مدة تزيد على عشر سنوات على الأقل؛ أي أن استشراف المستقبل هو اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجموعة من التنبؤات المشروطة التي تشمل المعالم الرئيسية لأوضاع مجتمع ما، أو مجموعة من المجتمعات، عبر فترة مقبلة تمتد من 10 إلى 50 عاما، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، ولاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع. بهذا الشكل فإن دراسات استشراف المستقبل تسعى إلى استكشاف نوعية وحجم التغيرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمع ما حتى يتشكل مستقبله على نحو منشود. وقد حددت الجمعية الدولية لدراسات استشراف المستقبل خصائص علم دراسات استشراف المستقبل بأربع خصائص رئيسية وهي: (أنها دراسات تعتمد على استخدام أساليب علمية لدراسة الظواهر الخفية، وأنها أكثر اتساعا من حدود العلم حيث تتضمن إسهامات فلسفية بجانب الاجتهادات العلمية، وأنها تتعامل مع عدد كبير من البدائل والخيارات الممكنة الحدوث، وأنها دراسات تتناول المستقبل في آجال زمنية طويلة المدى قد تصل إلى 50 عاما). وتنبع أهمية استشراف المستقبل من أنه يعد ضرورة قصوى ومطلبا مُلحّا للدول والمؤسسات التي تواجه تحديات تنموية واستراتيجية، فهو يسهم بفاعلية في وضع الحلول لمشكلات المستقبل بكلفة اليوم والتي هي أقل كلفة من المستقبل، كما أنه يساعد الدول والمؤسسات على سرعة الاستجابة للتحديات واتخاذ القرارات الملائمة والتصرف على نحو أكثر فاعلية، حيث يختفي عنصر المفاجأة نتيجة التخطيط المسبق، بالإضافة إلى أنه يتيح للدول والمؤسسات التحقق من جودة ودقة القرارات التي يتم اتخاذها، كما يساعد على الإبداع والابتكار بأقل كلفة والاستفادة من المعطيات والموارد المتاحة في الحاضر لبناء المستقبل. وعلى الرغم من أن التخطيط للمستقبل والتنبؤ بالأحداث والمتغيرات مارسته الشعوب والدول منذ أقدم الحضارات الإنسانية بأنماط مختلفة إلا أنه أخذ صيغة العلم بعد الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية حركة واسعة استهدفت الاهتمام بدراسات استشراف المستقبل، وأصبح صناعة أكاديمية، ونشاطًا علميًا قائمًا بذاته، ومنهجًا عمليًا للإدارة والتخطيط، بالإضافة إلى أنها فن وإبداع. ويمكن أن نلاحظ هذا الاهتمام عبر عدد من المؤشرات، ومنها: تزايد أعداد العلماء والباحثين المشتغلين في دراسات استشراف المستقبل في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، وظهور العديد من المراكز والهيئات العلمية والمعاهد المتخصصة في دراسات استشراف المستقبل، وبروز الجمعيات والمنظّمات المعنية بدراسات استشراف المستقبل، كما تأتي الرؤى الاقتصادية والاجتماعية للدول ضمن هذا الإطار. وفيما يتعلق بمملكة البحرين فقد دشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدّى في عام 2008 الرؤية الاقتصادية لمملكة البحرين 2030. متشحة بشعار وهدف جليل ينص: «من الريادة إقليميا إلى المنافسة عالميا» لتمثل استشرافا لمستقبل الاقتصاد البحريني حتى عام 2030، وجاء إطلاق الرؤية بمثابة انطلاق مرحلة جديدة من البناء التنموي الاستراتيجي المستند إلى أسس علمية في التخطيط طويل الأجل والهادف إلى الارتقاء بالعملية التنموية فكرا وتطبيقا، ما يعزز حاضر البحرين، ويرسخ مستقبلها الواعد، ويحقق أهدافها في التنويع الاقتصادي. وقد تضمنت الرؤية تشخيصا لأبرز معطيات الاقتصاد والمجتمع في المملكة. وقد كانت دقيقة في تشخيصها وتقويمها لواقع الاقتصاد البحريني، ومن ثم معالجتها للمشكلات المزمنة التي يعاني منها، وفي تحديدها لمصادر جديدة للتنافسية في مؤسسات القطاع الخاص، وتطوير نوعية الوظائف والمهن ورفع مستواها في البلاد. وأكدت أن ذلك لن يتحقق إلا عن طريق التحول إلى اقتصاد يحفزه القطاع الخاص المبادر، وتتوطن فيه المؤسسات والمشاريع التي تعتمد على معدلات إنتاجية عالية، ومستويات متقدمة من الإبداع والابتكار لإنتاج السلع وتقديم الخدمات ذات القيمة المضافة. وقد سعى كل من مجلس الوزراء ومجلس التنمية الاقتصادية إلى البدء في تنفيذها عام 2009 بالتنسيق مع السلطة التشريعية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، باعتبارها أذرع المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، لكن ما يؤخذ على الرؤية الاقتصادية أنها لم تحتو على معايير ومؤشرات رقمية تلزم الجهاز التنفيذي في المملكة بالوصول إليها وتحقيقها في مرحلة زمنية محددة مسبقا، الأمر الذي ييسر عملية التقييم والمراقبة على التنفيذ، وحتى يمكن تنفيذ تلك الرؤية كان ينبغي أن تقسم على خطط خمسية تستهدف الوصول إلى نسب نمو معينة في محاورها المختلفة، وهذه الخطط تقسم إلى برامج سنوية واجبة التنفيذ، تبدأ بالممكن وتتصاعد سنويا للوصول إلى غاياتها العليا. ولم تتعرض إلى مراجعة علنية شاملة لتقويم ما أنجز من أهدافها وما لم ينجز إلا مؤخرا بعد مرور أكثر من سبع سنوات على إطلاقها، تعرض خلالها الاقتصاد والمجتمع البحريني إلى تحديات عديدة طرحت تساؤلات عن إمكانية تحقيق الأهداف الواردة في الرؤية، لذا لا بد من مراجعة فنية واقتصادية للرؤية بمنظور دراسات استشراف المستقبل، حيث يمكن من خلالها رصد المواجهات الاستراتيجية والمعوقات والكوابح التنموية المحتمل وقوعها مستقبلا، ووضع السيناريوهات الكفيلة بمواجهتها والحد من تداعياتها، وصياغة خطط زمنية محددة لإنفاذ الرؤية بمؤشرات رقمية ملزمة، تعزيزا للنجاحات التنموية التي حققتها المملكة لتكون فعلا آلية تنموية لاستشراف المستقبل. كما لا بد من التأكيد على أن من المهام الرئيسية المنوطة بها الحكومة في إدارة مواردها العامة أن تضع التنبؤات والخطط لمواجهة المخاطر المحيطة بماليتها العامة، وان تضع استراتيجيات شاملة لإدارتها. إن هذه المهام والمسؤوليات تفرض الاهتمام بدراسات استشراف المستقبل بكل أنماطها وتهيئة موارد بشرية مؤهلة وذات كفاءة للتعاطي معها، وحسنا فعلت جامعة البحرين حينما طرحت هذا العام برنامج بكالوريوس العلوم الاكتوارية والذي يعنى بدراسة التنبؤات المالية المستقبلية وكيفية إدارة وتقليل المخاطر في المؤسسات المالية الحكومية كقطاع التقاعد والتأمينات الاجتماعية، بالإضافة إلى مؤسسات الاستثمار المالي وشركات التأمين. ونأمل أن تطرح الجامعة في السنوات القادمة برنامجا للدبلوم العالي أو الماجستير في دراسات استشراف المستقبل خدمة لحاضر البلاد ومستقبلها الزاهر بعون الله وجهود قيادتنا الحكيمة. * أكاديمي وخبير اقتصادي.

مشاركة :