في مقالتين سابقتين في صحيفتنا الغراء أخبار الخليج، واحدة بعنوان «دور دراسات استشراف المستقبل في تعزيز الاستقرار الاقتصادي» نُشرت بتاريخ 3 سبتمبر 2018. والثانية بعنوان «السياسات الاقتصادية في البحرين وضرورة الدراسات المستقبلية الساندة لها» نُشرت بتاريخ 2 يوليو 2018 أكدنا فيهما أن من المهامِ الرئيسية المنوطةِ بالدولة في إدارةِ مواردها العامة أن تعدَّ دراساتٍ متخصصة في استشرافِ المستقبل، مصحوبة بالتنبؤات الإحصائية حول كيفية تطور الإيرادات والنفقات المالية وعجز المالية العامة، ووضع الدين العام مع مرور الوقت، وأن تزود صنَّاع القرار في الوزارات والجهات الحكومية بهذه المعلومات بحيث يكون في وسعهم تحديد إذا كانت الحاجة تستدعي إدخال تعديلات في السياسة المالية أو أي من السياسات المكونة للسياسة الاقتصادية للبلاد، وفي أي وقت تكون الحاجة ماسة إلى تلك التعديلات للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي، ومن ثم إعلان ذلك لقطاع الأعمال والمواطنين مبكرا، باعتبار أنهم الذين سيتحملون نتائج تلك السياسة. خاصة وأن أهمية استشراف المستقبل تنبع من أنه يعد ضرورة قصوى ومطلبا مُلحَّا للدول والمؤسسات التي تواجه تحديات تنموية واستراتيجية، فهو يسهم بفاعلية في وضع الحلول لمشكلات المستقبل بكلفة اليوم والتي هي أقل كلفة من المستقبل، كما أنه يساعد الدول والمؤسسات على سرعة الاستجابة للتحديات واتخاذ القرارات الملائمة والتصرف على نحو أكثر فاعلية، حيث يختفي عنصر المفاجأة نتيجة التخطيط المسبق، بالإضافة إلى أنه يتيح للدول والمؤسسات التحقق من جودة ودقة القرارات التي يتم اتخاذها، كما يساعد على الإبداع والابتكار بأقل كلفة والاستفادة من المعطيات والموارد المتاحة في الحاضر لبناء المستقبل. واليوم وفي ظل جائحة كورنا وتداعياتها التي طالت مختلف قطاعات الاقتصاد والمجتمع وكانت بحق أشد الأزمات التي عصفت بالإنسانية خلال أكثر من قرن من الزمن، وأكثرها سعة وانتشارا وتهديدا للوجود الإنساني برمته، ودفعت أكثر الدول تقدما وإمكانات إلى إعادة النظر في مختلف سياساتها الاقتصادية على الصعيدين الكلي والجزئي. أصبح التخطيط لمرحلة ما بعد جائحة كورونا ورصد التحديات الاستراتيجية التي ستواجهها، والمعوقات والكوابح التنموية المحتمل وقوعها مستقبلا، ووضع السيناريوهات الكفيلة بمواجهتها والحد من تداعياتها، وصياغة برامج زمنية محددة لإنفاذها، ضرورة قصوى لإعادة اقتصاداتها لجادة النمو والتمكين. وبالنسبة إلى مملكة البحرين فإنها في الوقت الحاضر بحاجة أكثر من غيرها من دول العالم إلى استشراف المستقبل بمدياته الثلاث القريب والمتوسط والبعيد، لمحدودية مواردها المالية وما تعاني منه أصلا من اختلالات في الميزانية العامة، وما تحملته من مصروفات ضخمة قياسا إلى مواردها المالية، سواء في مجال الإنفاق الصحي لمواجهة فيروس كورونا، وتوفير الوقاية للمواطنين والمقيمين أو في مجال حزمة الإنعاش الاقتصادي التي بلغت (4.3) مليارات دينار، وما لحقها من قرارات وإجراءات للتصدي لتداعيات الجائحة على الاقتصاد والمجتمع، مع حرص قيادة المملكة على استمرار عمل وبرامج الحكومة دون إبطاء أو تأجيل بسبب الجائحة، والتي نالت إشادة وإعجاب العديد من المنظمات العالمية والحكومات الشقيقة والصديقة. كما أن ضبابية مرحلة ما بعد كورونا على الصعيد العالمي، وتعدد سيناريوهات التعافي من تداعياتها عالميا بين تعافي سريع ومتواصل، وتعافي بطيء ومتواصل، وتعافي يحتاج فترة طويلة نسبيا، مع استمرار انخفاض أسعار النفط، وانخفاض تدفق السياح في الأمد القصير على اقل تقدير، وانخفاض عوائد القطاع المالي والمصرفي، وتراجع أداء القطاع التجاري عموما، وتعثر وإفلاس العديد من الشركات ولا سيما الصغيرة والمتوسطة، وتسريح موظفيها وكل ذلك سينعكس سلبا على المالية العامة في المملكة وزيادة اللجوء إلى الاقتراض، وسيؤثر ذلك على تصنيفاتها الائتمانية، وهذه الاختلالات من المحتمل تنقل جزءا من أعبائها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المواطنين، سواء عن طريق الرسوم أو خفض الدعم أو تأجيل تنفيذ عدد من المشروعات التنموية التي تسهم في تنشيط السوق، ما يتطلب دراسات استشرافية معمقة تنتهي إلى توصيات قابلة للتنفيذ وبما يعزز الأمن الاقتصادي والمجتمعي للبلاد، ويدني الآثار السلبية لجائحة كورونا، وبما ينسجم مع توجيهات صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس مجلس الوزراء أطال الله في عمره، وتأكيده على اللجان الوزارية بضرورة الاهتمام بدراسات استشراف المستقبل، ووضع الدراسات وبحث الخيارات الممكنة التي تكفل للأجهزة الحكومية سرعة مواكبة أي مستجدات طارئة في المرحلة المقبلة نتيجة لتداعيات جائحة كورونا، وبما يسهم في التخفيف من آثارها على الاقتصاد والمجتمع. وختاما نقول إن لكل مرحلة فواعلها ومؤثراتها وترسباتها على المرحلة التالٌية لها، الأمر الذي يتطلب دراسة معمقة لمرحلة ما بعد جائحة كورونا بكل أبعادها الصحية والمالية والاقتصادية والاجتماعية وإفرازاتها السياسية، للوصول إلى عدد من السيناريوهات الممكنة التطبيق تحت بدائل وأطر عديدة للحلول المقترحة لمواجهة مرحلة ما بعد جائحة كورونا على أن يكون أحدها في إطار مجلس التعاون الخليجي.ونسأل الله جل في علاه في هذه الأيام المباركة من الشهر الفضيل، أن يحفظ مملكتنا العزيزة قيادًة وشعبًا، وأن يتم عليها نعمة الأمن والاستقرار، ويمكنها من تجاوز الظروف الصعبة ومواصلة إرساء مسيرتها نحو التنمية المستدامة. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :