مرة أخرى يصحبنا الأخوان جويل وإيثان كوين في مغامرة سينمائية حافلة بالمواقف الطريفة والمعاني العميقة، مع فيلمهما الجديد الذي يقدم قصصا مختلفة عن عالم الغرب الأميركي في قالب أفلام الويسترن، لكنه ليس الويسترن الذي نعرفه وعرفته السينما الأميركية، حيث التشويق يبلغ ذروته مع مصائر الأبطال في كل قصة من قصص الفيلم الست يعرض الأخوان جويل وإيثان كوين فيلمهما الجديد “أنشودة بستر سكروجز” (The Ballad of Buster Scruggs) ضمن مسابقة الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا السينمائي المستمر حتى الثامن من الشهر الجاري. هذه المرة من خلال 6 قصص تدور في عالم الغرب الأميركي الذي يحكمه قانون وحيد هو قانون القوة، ولكن على تنويعات مختلفة تصطبغ أيضا برؤية الأخوين كوين العدمية والجمع بين الكوميديا وتقاليد فيلم الويسترن وأجوائه. سبق للأخوين كوين الخوض في غمار سينما الويسترن من قبل من خلال أكثر من عمل أهمها في رأيي الفيلم- التحفة “إصرار حقيقي” (True Grit) لكن الفيلم الجديد يختلف عن هذا في كونه لا ينتمي فقط من حيث الشكل إلى الويسترن، لكنه ينتمي مذهبيا إلى سينما ما بعد الحداثة، رغم التزام مخرجيه بطابع الويسترن وتقاليده من حيث الشكل الخارجي، فهذا الثنائي الأميركي العجيب الذي يعمل طرفاه معا في تناغم مدهش منذ أن بدآ الإخراج السينمائي قبل ما يقرب من خمسين عاما، يمتلك قدرة مدهشة على التلاعب بالشكل الفني بحيث يصنع المخرجان معا عالمهما الخاص، الذي يحمل رؤيتهما الساخرة لأميركا: الحلم والعنف والموت. ويسترن جديد كان هذا الفيلم قد بدأ أصلا كمسلسل تلفزيوني تنتجه شركة نتفليكس لكنه تحول بشكل مفاجئ إلى فيلم سينمائي، ورغم أنه مكون من 6 قصص منفصلة يجمعها بالطبع الأسلوب والكتاب الواحد الذي يضمها والذي تظهر صفحاته على الشاشة مع تعاقب الفصول الستة بحيث يمكننا أن نقرأ بضعة أسطر من كل قصة كما نشاهد صورة معبرة تحمل المغزى العام لها، إلا أنه ليس من المتصوّر أنه من الممكن صياغة القصص الست في مسلسل تلفزيوني، فقد بدت كل قصة في مجالها الزماني المحدد على الشاشة (الفيلم كله يقع في 135 دقيقة) محكمة متقنة ليس من الممكن تصوّر أن تقلّ أو تزيد ولو لقطة واحدة عما جاءت عليه بالفعل. شأن كتب القصص القصيرة يحمل الفيلم عنوان القصة الأولى في المجموعة التي كتبها المخرجان الكبيران أي “أنشودة بستر سكروجز” وهي التي يفتتح بها الفيلم من خلال لقطات عامة في صحراء الغرب الأميركي لراعي بقر (كاوبوي) أو مجرم ضليع في الإجرام مطلوب للعدالة حيا أو ميتا، يدعى بستر سكروجز؛ فوق صهوة حصانه يمسك بالقيثارة يعزف ويغني في سعادة وكأنه امتلك مفاتيح العالم، يهبط يربط حصانه ويدخل إلى ما يظنه مشربا أميركيا في تلك البقعة النائية التي لا تشي بوجود أي حياة فيها سوى الطيور، يطالعه الرجال العابسون بنظرات غضب وتشكك. ماذا يخبئ القدر للفتاة التي تبحث عن الأمان ماذا يخبئ القدر للفتاة التي تبحث عن الأمان مجموعة تلعب الورق، كبيرهم يتطلع نحو الغريب القادم وكأنه رأى الشيطان نفسه. حارس المكان عند البوابة أصر أن يترك بستر أسلحته قبل دخوله بدعوى أن تلك هي قوانين المكان. يترك رجل مكانه حول طاولة اللعب. يجلس بستر لكي يلعب مكانه. يتناول الأوراق التي تركها ثم يضعها مكانها فما فيها لا يبشر بخير. يقول له الرجل الذي تبدو على وجهه كل معالم الشر: إذا أردت فلتلعب بأوراقه. يرفض بستر اللعب بورق الرجل الذي غادر. يصرّ الآخرون جميعا على أن يستخدمها إذا ما أراد اللعب. تنفجر بالطبع مبارزة يتمكن خلالها بستر من قتل الجميع في مشهد كرتوني متعمد أن يأتي على هذا النحو، ففيه من السخرية بقدر ما فيه من روح المرح والعبث. لقد تمكن بستر من قتلهم جميعا لكنه يصبح هو على موعد مع قدره خارج المكان عندما يتصدى له رجل ويتحداه أن يبارزه. بكل ثقة يسأله هل تريد أن تعود؟ لا أهمية لذلك يرى الرجل. جميل. لنفعلها إذن. يستدير صاحبنا ويمسك بمرآة يرى فيها الرجل، يتحدث إلينا مباشرة أي إلى الكاميرا ويقول إنه غير واثق هل ستصيب الرصاصة الرجل، فمن المحتمل أن تنحرف سواء إلى اليمين قليلا أو إلى اليسار، أي إنه يطلب عفونا عنه إذا ما أخطأ. لكنه يصيب وفي مقتل. لكن القصة لا تنتهي هنا، فثقته الشديدة بنفسه توقعه في الشرك. وبنفس الطريقة التي يقتل بها الآخرون أي برصاصة في منتصف الجبهة تماما، يقتل هو لكنه بعد أن يصاب يخلع قبعته ويتأمل في الثقب الذي أحدثته الرصاصة فيها قبل أن يدرك وندرك نحن معه أن الرصاصة نفذت من هذا الثقب إلى جبهته ليسقط في اللحظة التالية على الأرض. وعندما يموت وتصعد روحه إلى السماء يرى الجنة أنشودة جميلة ومجموعة من الطيور البريئة تحلق في الفضاء. في هذا الجزء يبرع الممثل تيم بلاك نلسون في دور بستر، يتقمص الشخصية الفجة خفيفة الظل، يستخدم اللهجة المعروفة التي يستخدمها رعاة البقر في الغرب الأميركي، يغني ويصدح يتمالك نفسه، يشعر بتفوق يمنحه إياه دقته في التصويب إن حياته مستمرة فقط بسبب تلك القطعة الحديدية أي المسدس الذي يطلق منه قطعا معدنية أصغر. وعندما يأتي من يمنحه القدر القدرة على التفوق عليه، تكون نهايته التي يقبلها عن طيب خاطر ويمني نفسه بالخلود في السماوات العليا. هذه هي فلسفة الأخوين كوين الساخرة. وقد تعمدت أن أسرد بالتفصيل معالم القصة الأولى لكي يتبين القارئ أسلوب الفيلم ورؤيته العبثية الساخرة. ليس هذا بالتأكيد عالم الويسترن الذي عرفناه بل صورة هذا العالم كما يراه الأخوان كوين. وفي القصة التالية “قرب الغودونز” نشاهد جيمس فرانكو في دور كاوبوي يسرق البنوك لكن حظه السيء يوقعه في يدي مدير بنك محنك أعدّ العدة لمثل أعمال السطو المسلح التي أدرك أنه أمام واحدة منها بمجرد أن دخل صاحبنا، وبعد أن أشهر سلاحه في وجهه مطالبا بأن يناوله كل النقود. في الحقيقة لا يوجد غير هذا الرجل في البنك، بل ولا يوجد زبائن أيضا فالتجريد هو طابع القصة وهو تجريد مقصود أن يجعلك تشاهد شيئا أقرب إلى الخيال لا إلى الحقيقة. في الغرب الأميركي السلاح هو القانون في الغرب الأميركي السلاح هو القانون سيتمكن الكاوبوي من الحصول على المال لكنه وقد شرع في الهروب سيتمكن صاحب البنك أو مديره أو الموظف الوحيد فيه (لا فرق) من تعقبه وإطلاق النار عليه، وطبعا سيقبض عليه وينال حكما بالإعدام شنقا. وعندما يجلس فوق الحصان وحبل المشنقة ملتفا حول رقبته ضمن عدد من اللصوص والمجرمين الذي يواجهون نفس المصير إلى جواره. نرى رجلا قريبا منه هو الوحيد الذي يرتجف وينتحب. يتطلع إليه صاحبنا ويتمتم: آه. المرة الأولى. ستحدث مفاجأة من مفاجآت الويسترن عندما يغير الهنود الحمر على المكان ويقتلون رجال تنفيذ القانون وجميع المجرمين ليبقى صاحبنا فوق الحصان مقيد اليدين والحبل يتدلى من أعلى الشجرة يقبض على خناقه، وكلما حاول الحصان أن ينتقل إلى الأمام قليلا وهو يتناول العشب من الأرض غير عابئ بصاحبه أو لا يدرك أن الحبل يضيق على رقبته، يستجديه صاحبنا أن يثبت في مكانه. ما هذا المصير المعلق على رغبة الحصان في تناول الطعام، وما الذي سيحدث له في هذا المكان القفر، وكيف سيلقى موته؟ لن يتركه الأخوان كوين هكذا بالطبع لكننا لن نحرق نهاية القصة. في القصة الثالثة “تذكرة وجبة” يقوم ليام نيسون بدور بائع متجول أو مسلّ يعرض بضاعته أمام رعاة البقر الخشنين عله يحصل على وجبة أو بضعة قروش. أما بضاعته المعروضة فهي شاب مقطوع الساقين والذراعين يطلقون عليه “الفنان” يجلس فوق صندوق يلقي أبياتا من الشعر عن الحياة والموت، ويستعرض الكثير من الوثائق والقصص ذات المغزى الإنساني بينما يقوم نيسون بعمل المؤثرات الخاصة لإضفاء جو درامي على ما يرويه الفتى بحيث تصبح هذه “البضاعة” أكثر جاذبية بينما يجلس الرجال الغلاظ يدخنون ويحتسون الخمر ويستمعون إلى أشياء لا يفهمون لها معنى بالطبع. هل هذه هي وظيفة الفنان؟ لدينا أيضا قصة الباحث عن الذهب (ثيمة معروفة في أفلام الويسترن) وهو رجل بدين متقدم في العمر ذو لحية كثة يشبه كثيرا في شكله الشخصية الشهيرة التي قام بها وولتر هيستون في فيلم “كنوز سييرامادري”. وهو يبحث ويبحث عن الذهب في مكان ما عند سفح الجبل. يصل الليل بالنهار بحثا. وعندما يكشف الكنز له عن نفسه أخيرا، يقف وراء ظهره مباشرة الكاوبوي اللص شاهرا مسدسه ولا يتردد في استخدامه أيضا ليوقعه مصابا إصابة يتصوّر أنها قاتلة، داخل الحفرة التي ينتشر فيها الذهب بين حبيبات الصخور. لكن القدر يدخر أمرا آخر. فأنت اليوم ميت لكنك ستعود وستحصل على ما كتب لك. لا يوجد منطق ما محدد وواضح يحكم وجود الأشياء في العالم، فالحياة عبث، والأقدار عبث، والإنسان لعبة تلهو بها الأقدار في أفلام الأخوين كوين العدمية. الحب والقدر نوع جديد من الويسترن يمكن وصفه بأنه "ويسترن ضد الويسترن" نوع جديد من الويسترن يمكن وصفه بأنه "ويسترن ضد الويسترن" ولعل من أفضل قصص الفيلم وأكثرها تماسكا ومرارة وسخرية أيضا قصة “الفتاة المضطربة” التي تواجه مصيرها بعد أن تفقد شقيقها بينما كانت في طريقها إلى أوريغون حيث تأمل في الزواج من رجل اتفق مع شقيقها على الحصول على مبلغ من المال سيأتيه به والمشاركة معه في أعماله مقابل زواجه من الفتاة. لكن الآن تنضم هي إلى قافلة من العربات التي تنقل البشر (قبل ظهور القطار وكانوا يسمونها القطار) يقوم بحماية هذه القافلة رجلان؛ شاب في المؤخرة، ورجل مخضرم في المقدمة. هي لا تملك المال ولم تعد لديها أسرة تعود إليها في البلدة التي تركتها. إنها تواجه موقفا وجوديا عبثيا وصعبا تماما لكن الحب يأتي فالحارس الشاب الذي لم يعد شابا تماما، يريد أن يتقاعد بعد 15 عاما من هذا العمل المرهق الخطر في حماية القوافل من غارات الهنود الحمر الذين يقاومون امتداد البيض في أراضيهم. وبعد الحديث تلو الحديث تشعر هي بالقرب منه ويفاتحها هو برغبته في الزواج منها وبالتالي تنتهي مشكلتها. هنا يبدو أن كل شيء قد أصبح على ما يرام. فقط يبقى أن يقطع القطار الرحلة في أمان. فهل سيحدث هذا أم أن القدر يخبئ لنا الموت لحظة إحساسنا بأننا قد تجاوزنا محنة العيش؟! فيلم الأخوين كوين متعة بصرية من الطراز الأول بلقطاته ومناظره الطبيعية الخلابة الآسرة.. وهو نوع جديد من الويسترن يمكن وصفه بأنه “ويسترن ضد الويسترن”، أي أنه يستخدم النوع السينمائي لتقديم كل ما يخالفه فكريا وفلسفيا حتى من حيث بناء المشهد وتتابع الصور، فالإثارة لا تنبع من الحركة بل من تعقيدات “الوضع الإنساني” التي نشاهدها مكثفة على الشاشة سواء في صورة كوميدية أو تراجيدية. والحقيقة أنه يصعب كثيرا هنا الفصل بين الجانبين.
مشاركة :