جعل الكثير من الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي والمحسوبة على الإسلام السياسي وجماعة «الإخوان المسلمين» بتصنيفاتها وانشقاقاتها الداخلية، «صفقة القرن» عنواناً له. ومن أحدث النماذج تقرير يتم الترويج له بكثافة عبر تطبيقي «واتسآب» و «فايسبوك» على هيئة إعلان مدفوع الأجر. وبمجرد مطالعة السطور الأولى من محتواه الممتد عبر 134 صفحة سنلاحظ فساد الاستدلال، وكثرة الأكاذيب، وليّ الحقائق، وهي من سمات الحملات الإلكترونية التي لجأت إليها قطر وتركيا كثيراً، وشملت أخيراً مواقع إلكترونية تابعة لفلسطينيي الـ48. الحملة الإلكترونية المتسترة بـ «صفقة القرن»؛ تجاهلت أن الولايات المتحدة تراجعت عن طرح الصفقة وبدلاً من تدشينها قامت بتكفينها على ما يبدو حتى قبل انشغال ترامب ومعاونيه في احتمال تعرضه للإقالة والعزل. كما تجاهلت أن الدول العربية المقصودة بالهجوم لم تبد تعاوناً أو حتى قبولاً لتلك الصفقة وشددت مراراً وتكراراً بألسنة قادتها على الحقوق الفلسطينية والثوابت التي تتمسك بها القيادة الفلسطينية. التقرير؛ يتم توزيعه بصيغة «بي دي إف» على هواتف مسؤولين وباحثين وإعلاميين وجمهور عادي تحت عنوان «صفقة القرن»؛ من إعداد إبراهيم حمامي الذي يزعم أن الحركة الصهيونية هي التي تراجعت عن الاستيطان في سيناء كمحطة للوصول إلى تأسيس دولة في فلسطين، ويتجاهل الإشارة إلى أن مصر دفعت ثمناً فادحاً تمثّل في ضرب أسطولها وإجبارها على تقليص مساحة إمبراطوريتها، وإنهاء حكمها في الشام؛ حين رفض محمد علي، ونجله إبراهيم في شكل قاطع استيطان اليهود في فلسطين؛ في حين فتح السلطان عبد الحميد؛ حين عادت له فلسطين، أبواب الهجرة والحماية القنصلية والامتيازات الأجنبية، وتفاوضَ مع هرتزل مراراً وتكراراً حول شراء الأراضي والأبواب العلنية والملتوية لزيادة الهجرات والمستوطنات والمؤسسات والبنوك والبريد التابع للصهيونية ذات الأهداف المعلنة. وهو ما تكرّر بقوة حين حاول هرتزل في القاهرة الحصول على موطئ قدم في سيناء. ولعل الباحث بداية عن تعريف لكاتب تقرير «صفقة القرن» سيعي أن الأخطاء التي وقع فيها والرغبة في التضليل ليست من قبيل المصادفة. فالكاتب – مولود في ليبيا ومقيم في لندن- سجلُه حافل بالأكاذيب الإعلامية ضد مصر، وهو «غير متخصص» لا في التاريخ ولا في السياسة ولا في الشؤون الإسرائيلية، ويقدم نفسه على أنه «أختصاصي في طب العائلة»؛ وكأنه يخجل من الإقرار بأنه «ممارس عام» في بريطانيا تطفّل على تخصص محدّد بغرض التشويه والتضليل. وهو ما يمكن كشفه من خلال نقاط محددة: يروج الكاتب أن «المؤرخين الجدد» سيؤدون إلى فناء إسرائيل، وهو نوع من التخدير والدعوة إلى الخمول طالما أن الانتصار سيأتي مجاناً وبأيدي هؤلاء. وفي هذا انتظار لما لن يأتي؛ لأن «موجة المؤرخين الجدد» انتهت منذ عقدين، بحصارهم ومنعهم من النشر مع ردود كثيرة عليهم وعلى أفكارهم وتشكيك في ولائهم لإسرائيل. وهو ما نجمَ عنه، ليس فقط انحسار تأثيرهم وتراجعه الملحوظ، بل تراجع عدد منهم عن أفكارهم ونتائج أبحاثهم التي أنصفت العرب، وأقرّت بارتكاب مذابح، وبأن العصابات الصهيونية لم تكن أقلية في مواجهة «الجيوش العربية» في حرب 1948، بل كان عددها أكبر، إلى جانب العتاد المتقدم الثقيل الذي كانت تتسلح به. يزعم الكاتب (تاركاً الموضوع والعنوان الخاص بالتقرير جانباً) أن «النظام المصري يحاصر غزة بهدم أنفاق التهريب»، وكأن الإرهاب والأعمال غير المشروعة بتنويعاتها صارت هي الأصل ومكافحتها هي الاستثناء المرفوض. وهو يتجاهل تحول جزء من شمال سيناء إلى ميدان قتال لمطاردة المرتزقة بتضحيات الجيش والشرطة. كما يتجاهل فتح المعبر كلما دعت الحاجة وبما يراعي الأمن القومي المصري. وعلى المنوال نفسه يمجّد كاتب التقرير دولتي قطر وتركيا؛ متجاهلاً دعمهما الإرهاب الذي يستهدف العرب، وتنسيقهما وتعاونهما في الوقت ذاته مع إسرائيل وحلف الناتو. والغريب كذلك أن كاتب التقرير الإلكتروني عن «صفقة القرن» يضع الجدار العازل في خانة خسائر إسرائيل! وهو بذلك يفرغ الاحتجاجات الفلسطينية من مضمونها طالما أن الجدار لا يحمي إسرائيل، بل يضرها ويفرض عليها العزلة! مع الوضع في الحسبان أن الكاتب ترك مجدداً «صفقة القرن» ليدافع في شكل مباشر عن «الإسلام المعتدل» ويحاول أن يقنعنا بأنه يختلف عن الإرهاب، وأن الولايات المتحدة تحاربه دعماً لما سماهم بـ «العسكر». وهو هنا يتجاهل أن الولايات المتحدة قبل وبعد وأثناء 30 حزيران (يونيو) 2013 دعمت «الإخوان المسلمين» والجماعات المنبثقة منهم، كما دعمت علناً تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة»، وفرضت والدول الغربية التابعة لها مقاطعة وعقوبات ضد مصر، حتى أيقن الغرب عدم جدوى استمرار هذا الدعم في ظل غياب حاضنة شعبية لهؤلاء المرتزقة الذين لفظتهم ولفظت أفكارهم المتطرفة شعوبهم. كما دسّ الكاتب عبارات لا علاقة لها بالسياق ومن الأمثلة على ذلك قوله: «لا ننسى هنا ملف الطاقة – أو الغاز في شرق المتوسط – الذي بدأت إسرائيل استغلاله ونهبه والتعدي على حقول الدول المجاورة فيه – لبنان وغزة - وكذلك الخلاف اليوناني التركي على ترسيم الحدود المائية في جزيرة قبرص المقسمة. فلا يوجد ربط بين الفقرة و «صفقة القرن»، بل ولا يوجد ربط بين العبارة الأولى والثانية في الفقرة نفسها لنفهم الداعي لإقحامها. الخلاصة أنه على استحياء ومن بين 134 صفحة خصّص الكاتب ثلاث صفحات لمحتوى «صفقة القرن»؛ كما «ترشحت» أمامه – وفق تعبيره - ومن دون ذكر مصدر واحد أو مرجع ولو متوسط الصدقية لحديثه المرسل الذي بنى وسيبني عليه تحليله! بعد 29 صفحة فقط مليئة بالأحاديث المكرّرة بعد محاولة تشويهها عن سايكس بيكو وعن أمور تاريخية تمت دراستها بتعمق مراراً وتكراراً على يد متخصصين، لجأ الكاتب إلى الحشو المستفز بإعادة نشر النص الكامل لمقالات له ولعدد من أصحاب التوجه نفسه، وهو ما يعد نموذجاً لاستغلال جمهور «الإنترنت» الذي يقرأ بسرعة وربما لا يدقق كثيراً كما يدقق جمهور الصحافة الورقية والمواقع التي تعتمد على متخصصين يحترمون القراء وتاريخهم وخبرتهم. فكيف يتم الرد على هذه الحملات المستترة وراء القضية الفلسطينية، كما تسترت من قبل باسم الدين فأساءت إليه؟ وكيف يتم فضح ما تحتويه من مغالطات؟ وهل الساحة ستظل متروكة لعابثين من دون تفنيد تلك الاختراقات الإلكترونية المحمولة إلى هواتفنا؟ * أكاديمي مصري
مشاركة :