الصراعات الاقتصادية والعولمة والشعبوية «1 من 2»

  • 9/4/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

يتبادر إلى أذهان أهل الاقتصاد وصناع السياسات أنهم استخفوا استخفافا شديدا بهشاشة النموذج الحالي للعولمة. وتتخذ الثورة الشعبية، التي يبدو أنها تجري الآن، أشكالا مختلفة ومتداخلة: إعادة التأكيد على الهويات المحلية والوطنية، والمطالبة بقدر أكبر من السيطرة الديمقراطية والمساءلة، ورفض الأحزاب السياسية الوسطية، وانعدام الثقة في النخب والخبراء. كانت ردة الفعل العكسية هذه متوقعة. فقد حذر بعض خبراء الاقتصاد، وأنا منهم، من العواقب المترتبة على دفع العولمة الاقتصادية إلى ما وراء حدود المؤسسات التي تتولى تنظيم الأسواق وتثبيت استقرارها ومنحها الشرعية. وكان الإفراط في عولمة التجارة والتمويل، بهدف إيجاد أسواق عالمية متكاملة بسلاسة، سببا في تمزيق المجتمعات المحلية. والمفاجأة الأكبر هي ميل ردة الفعل السياسية المؤكد نحو اليمين. ففي أوروبا، كان القوميون والشعبويون من مناهضي الهجرة هم الذين ارتفعوا إلى الصدارة، مع تقدم اليسار في قِلة فقط من الأماكن مثل اليونان وإسبانيا. وكما يعترف إجماع المؤسسة الجديدة الناشئة على مضض، تعمل العولمة على إبراز الانقسامات الطبقية وزيادة حدتها بين أولئك الذين يملكون المهارات والموارد اللازمة للاستفادة من الأسواق العالمية وأولئك الذين لا يملكون. وتقليديا، كانت الانشقاقات في الدخل والطبقة، على النقيض من انشقاقات الهوية القائمة على العرق أو الدين، تعمل على تعزيز اليسار السياسي. لماذا إذن عجز اليسار عن تشكيل أي قدر يذكر من التحدي السياسي للعولمة؟ تتلخص إحدى الإجابات في أن الهجرة طغت على "صدمات" العولمة الأخرى. إذ يفضي التهديد المتصور الذي تفرضه التدفقات الجماعية من المهاجرين واللاجئين من الدول الفقيرة وتقاليدهم الثقافية الشديدة الاختلاف إلى تفاقم انقسامات الهوية التي استغلها ساسة اليمين المتطرف بإتقان غير عادي. ليس من المستغرب إذن أن يربط الساسة اليمينيون، من ترمب إلى مارين لوبان، رسالتهم في التأكيد على النزعة الوطنية بجرعة غنية من الرمزية المناهضة للمسلمين. وتقدم لنا الديمقراطيات في أمريكا اللاتينية نقيضا ينبئنا بالكثير. فقد خبرت هذه الدول العولمة في الأغلب باعتبارها صدمة مرتبطة بالتجارة والاستثمار الأجنبي، وليس صدمة هجرة. فأصبحت العولمة هناك مرادفة لما يسمى سياسات إجماع واشنطن والانفتاح المالي. وظلت الهجرة من الشرق الأوسط أو إفريقيا محدودة وذات تأثير سياسي ضئيل. ولهذا، اتخذت ردة الفعل الشعبوية في أمريكا اللاتينية - في البرازيل وبوليفيا والإكوادور، وعلى النحو الأكثر مأساوية في فنزويلا - شكلا يساريا. والقصة مماثلة في الاستثناءين الرئيسين لانبعاث اليمين في أوروبا - اليونان وإسبانيا. ففي اليونان، كان خط الصدع السياسي الرئيس سياسات التقشف التي فرضتها عليه المؤسسات الأوروبية وصندوق النقد الدولي. وفي إسبانيا، كان أغلب المهاجرين حتى وقت قريب مقبلين من بلدان مماثلة ثقافيا في أمريكا اللاتينية. وفي كل من البلدين، كان أقصى اليمين يفتقر إلى الأرض الخصبة التي يحظى بها في أماكن أخرى. ولكن التجربة في أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا ربما تكشف عن نقطة ضعف أكبر تعيب اليسار: غياب أي برنامج واضح لإعادة صياغة الرأسمالية والعولمة بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين. فمن حزب سيريزا في اليونان إلى حزب العمال في البرازيل، فشل اليسار في إنتاج أفكار سليمة اقتصاديا وتحظى بالشعبية على المستوى السياسي، بعيدا عن السياسات التحسينية مثل تحويلات الدخل. يتحمل الاقتصاديون والتكنوقراط على اليسار جزءا كبيرا من المسؤولية. فبدلا من المساهمة في مثل هذا البرنامج، تنازلوا بسهولة شديدة لأصولية السوق واعتنقوا مبادئها المركزية. والأسوأ من ذلك هو أنهم قادوا حركة العولمة المفرطة في مراحل حاسمة. خاص بـ"الاقتصادية" حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت.

مشاركة :