اليوغوسلافي إيفو أندريتش، والمصري نجيب محفوظ، والتركي أورهان باموق يختلفون في اللغة، والثقافة، وفي الرؤية الجمالية للعالم، تتباعد شخصيات أعمالهم كما تتباعد الصيغ والأساليب السردية لنصوصهم الروائية. وربما لا يبالغ مَن يدعي أنه لا يجمع بينهم إلا فوزهم بجائزة نوبل للآداب في الأعوام 61، و88، و2006 وفق الترتيب الزمني؛ عن منجزهم الإبداعي في مجال الرواية على وجه التحديد. ولعلي لا أبالغ أنا أيضاً إذا ادعيت أن القاسم المشترك بينهم أكبر وأعمق مما نتخيل، وأنه يتجاوزهم ويتجاوز أعمالهم الأدبية إلى الحالة الثقافية العامة لمجتمعاتهم، ويتمثل في الأثر الذي أحدثه فوزهم بالجائزة العالمية الرفيعة في ثقافة تلك المجتمعات التي يجمع بينها موقعها على الهامش القريب للمركز الغربي، والذي يختلف عن الهامش البعيد – الصين مثلاً – في أنه ليس ناتجاً عن عزلة تاريخية أو جغرافية، وإنما عن فعل إقصاء عنيف بعد صراعات ثقافية ودينية امتدت لقرون طويلة. من هنا كان فوز كل منهم نوعاً من رد الاعتبار، واعترافاً– وإن كان جاء متأخراً - بإسهام تلك المجتمعات في إثراء الثقافة الإنسانية المعاصرة. هكذا بالغت تلك المجتمعات في تقدير هؤلاء الكتاب، فأندريتش تعرض كتبه في كل مكان في المكتبات، وفي المحلات وفي الأكشاك على الطرقات، جنباً إلى جنب مع البطاقات البريدية وهدايا السياح، فهو رمز البلد كله، وكتبه تُطبع سنوياً بأعداد الكتاب المُقدس نفسها، وتجدها في كل بيت، حتى لو كان أصحابه لا يقرؤون فهم يتباهون بحضور شيء منه في بيوتهم، وقد نال محفوظ تقديراً يقترب من هذا شعبياً ورسمياً، فقط باموق نتيجة لانتقاده لما يعرف بمذابح الأرمن، وكذلك انتقاده لإدارة بلاده للملف الكردي وحتى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة لم يسلم من انتقاداته، ما أدى إلى حرمانه على الأقل من التقدير الرسمي، وحرمانه من تمثال له ينتصب في أحد الميادين العامة مخلداً تلك اللحظة الفارقة، لحظة ثَقب جدار الهامش لتمر لغة ثقافته وعوالمها من خلال الترجمة إلى كل لغات المركز الغربي. جاء هذا التقدير المبالغ فيه بنتائج عكسية، فقد أصبح الفوز بنوبل لحظة استثنائية، انقطاعاً في الزمن، وأصبح تاريخ الثقافة ينقسم إلى ما قبل نوبل وما بعدها، فتم التقليل من شأن تجارب إبداعية كبيرة سابقة ومعاصرة وتالية لهؤلاء الكتاب، كما تمّ التحول من البحث عن التعددية التي تمثل المصدر الحقيقي لثراء ثقافة هؤلاء الكتاب إلى البحث عن أسباب اعتراف المركز الغربي بهم. وهو التوجه الذي جعل بعض الحمقى يرون في الفوز بنوبل جزاءً على خيانة الدين في حالة محفوظ، أو الوطن في حالة باموق، أو كليهما في حالة أندريتش الكاثوليكي الذي اختار أن يكون صربياً، والبوسني الذي تطارده الآن اتهامات بانتقاد الإسلام. وهو ما أدى إلى انقسام آخر حول القيمة الحضارية لأعمالهم والدور الذي يمكن أن تلعبه في مجتمعاتهم. لذلك إذا أردنا أن نستوعب التجربة الفريدة لهؤلاء الكتاب، وإذا أردنا أن نتفهم حالة المثاقفة العميقة بين تجربتهم الإبداعية وتجارب الآخرين سابقين ومعاصرين ولاحقين يجب أن نتحرر من تلك الرؤية التي تجعل منهم حلقة في صراع مع آخر متوهم، ونتطلع إليهم بوصفهم حلقة في تفاعل ممتد ومثاقفة مستمرة شكلت هويتنا الثقافية المعاصرة واقعياً. فتح فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل أعين دور النشر الغربية على الأدب العربي المعاصر، حيث رأوا في أعماله أصالة كشفت العمق الإنساني لمجتمعات ظلت حبيسة الغرائبي، فبدأوا في البحث عن أعمال أبناء لغة محفوظ لترجمتها وتقديمها للقارئ الغربي، وهو ما فتح أيضاً أعين أبناء لغة محفوظ من الكتاب العرب على العالم الغربي، وأصبح القارئ الغربي يشكل حيزاً معتبراً في أفق التلقي الذي تعتبره النظرية النقدية المعاصرة من أهم الفاعلين في تشكيل النص الروائي، وأصبحت درجة حضور هذا القارئ – أو المؤلف المشارك كما يدعوه بارت – تتناسب عكسياً مع أصالة الكاتب، فقد ذهب البعض في محاولة إرضائه للقارئ الغربي إلى العودة بصورة الثقافة العربية إلى سجن الغرائبي الذي كادت تتحرر منه، وصارت موضوعات النصوص الروائية تتحدد بما تشغل به وسائل الإعلام العالم من أخبار ترسخ الصورة النمطية للثقافة العربية، من التطرف الديني والإرهاب وقمع واضطهاد النساء، إلى عوالم الحريم السرية كما رسمتها ريشة الاستشراق. وبالطبع في مواجهة هؤلاء يوجد كثير من المبدعين الذين يمتلكون أدوات التواصل الجمالي العابرة للثقافات، والقادرين على تناول القضايا نفسها من دون تبني المنظور الاستشراقي السطحي لها. ولعل مصدر هذا الأصالة هو انغماسهم في قضايا مجتمعاتهم إنسانياً وهو ما يجعل من صياغتها جمالياً في نص روائي طرحاً لرؤية جديدة لها. لا أعتقد أن الثقافة العربية في أي لحظة من تاريخها غابَ عن أفقها الحضاري والثقافي الآخر الغربي، إلا أنه في كثير من الأحيان كان أسير صورة نمطية، ولعل أهم ما قام به رجال عظام مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين ومحمد عبده وغيرهم كان تحرير الآخر من صورته النمطية ورؤيته على حقيقته بعيداً مِن شيطنته أو الانبهار به. ولعلي لا أبالغ إذا ادعيت أن ثمة جيلاً مِن الروائيين الشباب يمضون في الطريق الذي خطه رفاعة الطهطاوي، وهو ربط المعلومات بالخبرة الإنسانية المباشرة، والذي يمضي في اتجاه معاكس لما وصفه ليوتار بأنه من أهم ملامح عملية الانتقال من الحداثة إلى مابعدها، وهي عملية الانتقال من المعرفة إلى المعلومات. فالمعرفة هي المعلومات مِن دون الخبرة الإنسانية، والمعلومات تتحول إلى معرفة فقط في إطار خبرة إنسانية، والخبرة المعنيّة هنا هي العملية النابعة من الإحاطة بأسباب الحياة، والقابلة لأن تتجلى من خلال الحكاية، كنصيحة ومشورة وحكمة، هي الخبرة التي تتناقلها الأفواه من جيل الى جيل ومن مكان الى آخر. لم يعد ثمة مكان لخبرة كهذه في عالمنا المعاصر، طالما أن قصارى ما يظفر به المرء إزاء ما يشهده ويعانيه، هو المرور بخبرة ما وليس حيازتها، بمعنى عدم الإحاطة بها على وجه يمكنه من إعادة إنتاجها في حكاية تنطوي على معرفة. ما تزخر به نصوص هذا الجيل من أحلام وآمال ومرارة وقلق واغتراب وكل المشاعر الإنسانية التي هي في المحصل الأخير علاقة مع وجود ومعنى تحدده الخبرة والتجربة الإنسانية في واقع تشتبك مع مفرداته بسخرية أو بغضب بإيمان أو بيأس أيا كانت طبيعة العلاقة التي يبتنيها الروائي فهي إعلان عن التمسك بواقع معاش أو السعي خلف واقع مأمول. أما في ثقافة ما بعد الحداثة، فمنذ صَكَّ إيهاب حسن مصطلح «اللا تحديد» في كتابه «المنعطف ما بعد الحداثي: مقال عن نظرية وثقافة ما بعد الحداثة» 1987 وهو يمارس سيطرة مطلقة على الوعي لا تسمح بوجود حقيقي للعالم أو للذات حيث يشير المصطلح إلى طراز معقّد مؤلّف من مفاهيم متنوعة ومختلفة، حيث تمثل مفاهيم: الغموض – اللا استمرارية – الابتداع، التعددية، العشوائية، الثورة، الانحراف والشذوذ والتشويه... إرادة ما بعد الحداثيين الكونية، في التخلي عن كل شيء». لا يسعى السرد العربي اليوم في معظمه إلى التخلي عن العالم وإنما إلى القبض عليه ولا يعني كون هذا العالم مراوغ ولا يعني كون الرغبات فيه ملتبسة أننا فقدنا علاقتنا به، أو أنه فقدَ وجوده بعد أن انداحت حدوده واختفت ملامحه. فالسرد العربي المعاصر ليس قطيعة مع المستقبل وهو لا يعادي الحدود إلا لأن العالم لا يسعه، لأن طموحه الجمالي لا يرضى بالحدود. يجب ألا ننسى أن ما يحرك هذا الطموح هو قناعته أنه ما زال هناك المزيد؛ المزيد من كل شيء من العالم ومن الذات ومن الحدود. لذلك أعتقد أنه بعد ثلاثين عاماً على نوبل العربية يمكننا الحديث عن جيل عربي بدأ يتحرر من ثنائية المركز والهامش.
مشاركة :