استمع عبدالله السناوي بعد عشر سنوات على رحيله، فإن تجربته في الأدب والسياسة، تستحق التوقف عندها مرة بعد أخرى، بقدر موهبته الاستثنائية التي أسست للرواية العربية الحديثة. دون ادعاء الحكمة بأثر رجعي، هناك سؤال لا يمكن تجاهله في أي بحث عن نجيب محفوظ: أيهما كان أفضل للأدب العربي.. النموذج شبه الانعزالي الذي تفرغ بمقتضاه لفنه الروائي، بعيداً عن السياسة وعواصفها، لكنها وصلت إليه في بعض محطات حياته، أم نموذج الأديب الملتزم بالدفاع عن القيم الإنسانية، كما فعل الأديب الكولومبي جبرائيل غارسيا ماركيز؟ كلاهما وضع بصمة لا تُمحى، وحصل على جائزة نوبل للآداب، غير أن تجربتيهما اختلفت بفداحة. رغم اختلاف المدارس وطبيعة الرجال، فإن هناك شيئاً مشتركاً عميقاً وحقيقياً أثره باق في الوجدان الإنساني. في روايتي مئة عام من العزلة والثلاثية النزوع ذاته لتأريخ الحالة الوجدانية لمجتمعين متباعدين عبر قصص عائلية تمتد في الزمن حقبة بعد أخرى، وجيلاً تلو آخر. عائلة بونديا تقابل عائلة السيد أحمد عبدالجواد، وماكوندو التي اختلقها ماركيز من خياله تقابل الجمالية التي استولت بطابعها الشعبي والتاريخي على مخيلة محفوظ. فالروايتان الأكثر شهرة وواقعية، من نوعين مختلفين لكنهما بدرجة الصدق الفني ذاتها. ورغم أن زقاق المدق لا تُضاهي أعمالاً أخرى لمحفوظ إلّا أنها اكتسبت شعبية لافتة في القارة اللاتينية، فالعوالم تتداخل في انسحاق الروح الإنسانية.. أنت لا تعرف كم أني شقية بتعبير بطلة الرواية حميدة. برؤيته الإنسانية تجاوز محفوظ محليته المصرية إلى عالمه العربي، وإلى عوالم بعيدة لم تخطر له على بال. في وقت متزامن، شهدت القارة اللاتينية تطورين جوهريين، أحدهما كشف خواء الواقع، وصاغ المخيلة العامة من جديد، بروايات ماركيز ومعاصريه.. والثاني جدد في الفكرين الاقتصادي كنظريات التبعية، والسياسي الذي راهن على التحولات في بنية النظام الدولي، لاكتساب الحق في الالتحاق بالعصر، وبناء نظم ديمقراطية حديثة. للتراجيديا اللاتينية تحدياتها التي دعت ماركيز للتقدم على مسارحها الغاضبة، مثقفاً ملتزماً وصحفياً موهوباً وأديباً لا يضارع. أحال في أدبه ما هو استثنائي إلى أمر عادي، وما هو أسطوري إلى وقائع طبيعية. عند كسر الحواجز المتخيلة حدث كسر آخر لأوهام العزلة وسطوة الجنرالات ونظم الحكم الكارتونية. ساعدت أعماله الأدبية مثل وقائع موت معلن والحب في زمن الكوليرا والجنرال في متاهة وخريف البطريرك في إفساح المجال العام لإزاحة ركام العفن. ماركيز فاجأ العالم في الأربعين من عمره عام (1967) بروايته مئة عام من العزلة، التي وصفها الشاعر اللاتيني الأشهر بابلو نيرودا بأنها أفضل ما كتب بالإسبانية بعد دونكيشوت. وحاز نوبل بعد خمسة عشر عاماً في (1982) بينما تأخر وصولها المستحق إلى أديب العربية الأكبر، حتى عام (1988) وهو في السابعة والسبعين من عمره. الأعمال الكبرى التي كتبها محفوظ، واستحق عنها نوبل انتهى منها جميعاً في العام ذاته، الذي نشرت فيه لأول مرة رائعة ماركيز. لماذا وصلت إلى ماركيز مبكراً، رغم مواقفه الشجاعة ضد الإمبريالية الأمريكية، وحكم الجنرالات في أمريكا اللاتينية، ونصرته للقضايا الإنسانية في كل مكان، وتأخرت في الوصول إلى محفوظ الذي بدا كحضرة المحترم وفق إحدى رواياته. لم يكن، على أي نحو، قريباً من النموذج الماركيزي، التزم بصورة شبه صارمة حدوداً لا يتعداها في العمل العام، وتجنب أي صدامات مع السلطات الحاكمة، لكنه عبر عن انتقاداته أثناء حكم جمال عبدالناصر في رواياته اللص والكلاب والشحاذ وميرامار والسمان والخريف وثرثرة فوق النيل. المثير أن أعماله الانتقادية لثورة يوليو، نُشرت على حلقات في صحيفة الأهرام على عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل، وتضمنتها برامج التثقيف في منظمة الشباب الاشتراكي. في تجربة ماركيز؛ الحروب الأهلية ووطأة التبعية للولايات المتحدة والقهر والفساد والجوع وهزلية الحكومات، استدعت أن يكون المثقف على الجانب الآخر، واضحاً وحاداً، وإلّا فقد صفته كمثقف وصلته بالحالة الوجدانية لقارته. ارتبط بصداقة عميقة مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أفضت إلى حملات نالت منه بقسوة. ارتبط بصداقة أخرى مع تشي جيفارا وأيد الجماعات الثورية في الستينات والسبعينات، لكنه دعم التوجهات الديمقراطية في القارة عند لحظة تحولاتها الكبرى. انتصر للقضية الفلسطينية ودعم ياسر عرفات، ووقّع على بيانات بلا حصر ضد التغول الإسرائيلي على حقوق الفلسطينيين، واحتذى المواقف ذاتها، ضد الحصار الأمريكي على العراق قبل غزوه، وأدان الاحتلال. كان عربياً ملتزماً أكثر من آخرين في قصور الحكم ودور الصحف، عربياً بالمعنى الذي اعتاده أحرار العالم في التوحد مع الضحايا والمظلومين. بصورة ما، فإنه أكثر تقديراً لتجربة جمال عبدالناصر من نجيب محفوظ، ربما تأثراً بآراء صديقه الحميم فيدل كاسترو، والجو العام في القارة كلها التي رأى فيها إلهاماً سياسياً على ما كان يعلن الزعيم الفنزويلي الراحل هوجو شافيز. ماركيز يختلف عن محفوظ غير أن كليهما حافظ بصرامة على التزامه تجاه أدبه والصدق فيه، حتى الكلمة الأخيرة. بسبب خيارات محفوظ لم يحظ بالمكانة التي حازها ماركيز.. والحياة خيارات في النهاية. كان يقرأ ويتابع من بعيد، ويبدي رأيه في أوساطه من دون أن يعلنه على الرأي العام، ويسخر من السياسات المعتمدة، من دون أن يتحداها، خارج ما يكتبه من أدب. لمرة واحدة تقريباً تحت ضغط توفيق الحكيم خرق هذه القاعدة بالتوقيع على بيان، يؤيد مطالب الحركة الطلابية المصرية عام (1972) مع نخبة من كبار الأدباء والمثقفين. وفي مرات أخرى، جرى توريطه في تأييد التطبيع الثقافي، وأدى ذلك إلى مقاطعة أعماله في العالم العربي لسنوات طويلة والإضرار بصورته. كما يُقال فإنه لا يمكن تكليف الأشياء فوق طاقتها. في الحصاد الأخير، يبقى من نجيب محفوظ إنتاجه الروائي الغزير الذي أودعه المكتبة العربية كأعز ما فيها.
مشاركة :