القاهرة - في كتابه ”الصعلكة والفتوة في الإسلام” أخذ الكاتب والمفكر أحمد أمين يبحث في كتب التراث والتاريخ عن الفتوة ويتتبع معانيها في العصور المختلفة من العصر الجاهلي إلى اليوم، وبدأت فكرة الكتاب في شكل محاضرة في دار الجمعية الجغرافية، ونشرتها عقب ذلك كلية الآداب في مجلتها بمجلدها السادس الصادر في مايو سنة 1942، ثم اتجه إلى أن يزيد فيها بعض ما عثر عليه ويضمنها رسالة صغيرة هي هذه التي قدمها للقراء. يقول أمين في تقديمه للكتاب “لفت نظري وأنا أقرأ الأغاني في ترجمة حنين بن إسحاق كلمة عن الفتوة فهمت منها أن لها نظاماً خاصاً وأن للفتيان في كل بلد مكاناً يجتمعون فيه ويسأل عنهم الغريب ويقصدهم، فتتبعت في الأغاني وغيره الحديث عنها، ثم رجع ذهني إلى الجاهلية فتصفحت بعض كتب الأدب وخصوصاً ديوان الحماسة والمفضليات وكيف استعملوا كلمة فتوة استعمالات مختلفة، ثم رأيت أن الصوفيين وضعوا في أشهر كتبهم باباً للفتوة أبانوا فيه معناها. ثم كان أن قرأت رحلة ابن بطوطة فرأيته أثناء رحلته في البلاد التركية يشيد بذكر الفتوة فيها ويبين إكرامهم للضيوف ومعاملتهم بعضهم لبعض ثم عرضت لكلمة الفتوة في العصر الحديث”. ولا شك في أنه توجد علاقة كبيرة ولو علاقة تناقض بين الفتوة والصعلكة، فكلاهما يؤدي معنى إنسانياً، وإن كان لفظ “الفتيان” يدل على أولاد الذوات و”الصعاليك” يدل على أولاد الفقراء، وبحث المؤلف كيف وقفت الصعلكة في صدر الإسلام وأسباب وقوفها وكيف ظهرت في العصر العباسي على شكل آخر إلى اليوم أيضاً. لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ البلاد، وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الأشخاص، وتاريخ الكلمات قد يكون معقداً ملتوياً غامضاً، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ. ويجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة ليستخلص منها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة. وهذا ما حاوله أمين في كلمة الفتى والفتوة والصعلكة والصعاليك. الفتوة في الأصل معناها الشباب، قالوا فِتيَ يفتَى، أي صار شاباً. وقالوا هو فتيٌّ السن، بينُ الفتَاء، وقد ولد له في فتاء سنه أولاد أي في شبابه. وأصل كلمة فتى مصدر فِتَى فَتِّى، كمرح مرحا. ثم جعلت وصفاً فقالوا “هو فتى، أي شاب” وجمعوا الفتى على فتيان وفتية. والاسم من ذلك كله “الفتوة”، ووصفوا بالفتوة الإنسان والحيوان. الفتوة والصعلكة هما مفهومان قديمان تميزا في الحضارة العربية بالكثير من الصفات الإيجابية على عكس ما هما عليه الآن وبعد ذلك كله نتساءل: ماذا استفاد العالم العربي من الفتوة والصعلكة في عصوره المختلفة؟ ويجيب المؤلف عن هذا السؤال بقوله “إنه استفاد فوائد كثيرة، أولا، إنه استفاد من الفتوة تقوية الناحية الفنية، فقد كان الفتيان مجالس يلجأ إليها المغنون، ويتعرفون عليها، ويحيون أوقاتهم فيها بالغناء، ويجدون فيها مطعمهم ومشربهم، كالذي حكى لنا عن إبراهيم الموصلي، فقد قصد إليهم وهم في حماه، وتعرف به إذ ذاك الخليفة المهدي، فكان هذا سبب نعمته، وشهرته الواسعة في ما بعد.. ثانياً تأقلم معنى الفتوة في الإسلام، فكانت مصدراً لفضيلتين كبيرتين، إحداهما الكرم، كما رأينا في زوايا الأتراك وحسن ضيافتهم كما حكى لنا ابن بطوطة. والثانية الفروسية”. وهذه الفروسية أتت في العصر الجاهلي من أن الفتيان كانوا في الجاهلية يعيشون عيشة فخفخة ووجاهة، ويودون السمعة الحسنة بالإغداق على الفقراء، وخصوصاً الشعراء منهم، ويتطلبون الثناء فكانوا يكرمون، وينحرون الجذور، ويشعلون النار للضيوف ونحو ذلك. فلما جاء الإسلام كان في تعاليمه ما يشجع الفتوة، من مثل إعطاء الفقير، ورفع الظلم عن المظلوم، وإعلان شأن المرأة، والجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليه. ووصية أبي بكر لقُوّاد جيوشه مشهورة في أن لا يقتلوا شيخاً ولا طفلا ولا امرأة، وأن يعاملوا أهل الذمة معاملتهم لأنفسهم، وأن لا يحرقوا نخلا. واستمرت تعاليم الفروسية هذه حتى أزهرت أيام صلاح الدين في الحرب الصليبية، ونرى أن المسيحيين عندما احتلوا بيت المقدس، نكلوا بالمسلمين كل التنكيل وعذبوهم عذاباً لا مزيد عليه. فلما استعادها صلاح الدين قبل الفداء، وأعتق من لم يقدر عليه، وأطلق سراح كثير من النساء من غير مقابل، وزادوا في حرية المرأة واحترامها لأنه كان لهم في الإسلام مثل حسن، وهم بنو عذرة الذين كانوا يحترمون النساء احتراماً شديداً ويحبونهن حباً أفلاطونياً، وهو المسمى بالحب العذري. أضف إلى ذلك، أن الصوفيين تبنّوا فكرة الفتوة وعدوها من الفضائل التي يحثون المريدين على التمسك بها، كالذي نراه في الرسالة القشيرية، والفتوحات الملكية وغيرهما، وجعلوا من مقررهم احترام النساء، حتى ليأبون أن تصب امرأة على أيديهم، وحتى ليأبون أن يؤذوا النمل والحيوانات الضعيفة أي إيذاء، وحتى يعدّوا من أنواع الفتوة إزالة كل عائق يعوق وصول الخير إلى مستحقه، فإذا وجدوا حجراً يعوق الماء أزالوه حتى يصل إلى النبات. وإذا وجدوا إنساناً تعوقه عن الخير فكرة شريرة أزالوها عنه. لقد وزعت المدنية الحديثة فكرتي الفتوة والصعلكة على مؤسسات عجيبة، فمثلا أخذت من الفتوة نجدتها، ومعونتها فوضعتها في نظام أطلقت عليه الكشاف. وجعلت للإحسان نظاماً خاصاً حتى لا يعطي المال لمن لا يستحقه ولم تكتف بالمال يصرف على الفقراء، بل أنشأت المستشفيات والمدارس والجامعات، وأوجدت هيئات توجب عملا لأهل البطالة وهيئات أخرى للتدخل في النزاعات التي تقوم بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال إلى غير ذلك. ونذكر أن كتاب أحمد أمين “الصعلكة والفتوة في الإسلام” صدر مؤخرا في طبعة جديدة عن ” وكالة الصحافة العربية – ناشرون “.
مشاركة :