قال جان بول وهو فيلسوف وكاتب روائي فرنسي: «من قال إن المال لا يشتري السعادة لم يكن لديه ما يكفي من المال»، لعل هذا القول يدخل فيه الكثير من المناقشات بين العامة والمتخصصين وأهل الفكر والرأي، ولا تنتهي الأدلة على بطلان قول طرف حتى يأتي الدليل المضاد على صحة رأي الطرف الآخر، تلك المعادلة الغريبة في النظر للمال باعتباره محركاً قوياً وفاعلاً في الحياة على مستوى الفرد والمجتمع لم تبدأ من اليوم أو من خلال العصور الحديثة وأشكال الدولة القائمة، وإنما من صدر الإسلام وتباعاً إلى وقتنا هذا، فالأغلب - برأيي - يعلم بالحديث المشهور المروي عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أو كما روى عنه بالقول إن ناساً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ أن لكم بكل تسبيحةٍ صدقةً، وكل تكبيرةٍ صدقةً، وكل تحميدةٍ صدقةً، وكل تهليلةٍ صدقةً، وأمرٍ بالمعروف صدقةً، ونهيٍ عن منكرٍ صدقةً، وفي بُضْعِ أحدكم صدقةً». ومعلوم أن أهل الدثور - كما جاء في المعجم اللغوي - هم «أهل المال الكثير»، ونستنبط من الحديث الشريف أن الرسول الكريم لم ينكر على أصحابه حقيقة أن أهل الدثور ذهبوا بالأجور، وإنما دلهم على حل ليكونوا مثل أهل المال بالأجر والتصدق، ولكن من دون مال، ولا شك أن هذا مفيد في الدنيا والآخرة، ومن المنطقي القول إن المال يجلب السعادة ومن المنطقي القول إن المال يرد عنك أخطاراً وبعضاً من التعاسة، لقد تعددت آراء حب المال بين بني البشر؛ فهناك من يراه قوة وهناك من يراه ابتلاء وهناك من يراه وسيلة، ولكن يبقى المال - ولا شك - مصدراً لما تحمله تطلعات وآمال وأطماع من يمتلك ذاك المصدر الفعال. ومن زاوية استراتيجية عن أهمية المال؛ نفهم كيف استطاعت الولايات المتحدة السيطرة على غالبية بقاع الأرض من خلال المال والسياسات المالية بين الدول، واستطاع الدولار أن يكون العملة الرسمية والصعبة بين تلك الدول أيضاً والتي من خلالها ينهض اقتصاد بعض الدول وينحني اقتصاد أخرى، وبالمال استطاعت أميركا فرض سياساتها بالقوة من خلال سن عقوبات على دول منافسة لها في القطبية العالمية. اكتشفت الدول الكبرى ألا سبيل لمنافسة أميركا إلا بالمال، أي أن حقبة سباق النجوم والكواكب والأسلحة والفضاء لم تعد هي الكافية لمواجهة أميركا وهزيمتها عالمياً، وإنما بالاقتصاد والمال فقط تستطيع تلك الدول أن تكون أقطاباً جديدة في العالم. والصين منافس شرس لأميركا في العالم وهي الوحيدة تقريبا التي ربما تستطيع أن تنال من أميركا في الفترة المقبلة، إذا ما علمنا أنها استطاعت أن تعيد رسم سياساتها الاقتصادية معتمدة على تاريخها المتميز في الاقتصاد عبر طريق الحرير، وهو طريق تاريخي كان يمتد من مدينة تشان غان عاصمة الصين خلال عهد سلالتي هان والتانغ إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وكان ذلك من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر، وكان مخصصاً للتجارة ونقل البضائع الصينية وأشهرها الحرير (ومن هنا اشتق اسمه) إلى بقية مناطق العالم القديم، ويتضمن الطريق 33 موقعاً مختلفاً، يشمل مدناً رئيسة وقصوراً ومستوطنات تجارية وممرات جبلية ومنارات وحصوناً وأضرحة ومبان دينية، وها هي الصين تعمل لإحيائه من جديد، بحيث استطاعت الاتفاق مع عدد من دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا للبدء في ذلك الطريق التجاري، وبدأت بعض الدول في إنشاء البنية التحتية التي تساعد في إتمام المشروع. لذا؛ فإنه من الطبيعي أن تسمع وترى التنافس الأميركي - الصيني في السياسات الاقتصادية وما يتبعها من فرض كل دولة ضرائب على الأخرى في سبيل كبح جماح التقدم الاقتصادي للطرف الآخر، والقارئ في السياسة الصينية الاقتصادية واستراتيجيتها في التمدد والنهوض من جديد والسعي للريادة في الاقتصاد يعلم مدى الذكاء والحنكة لدى الصينيين في تنفيذ ذلك، وقد يكون من المنطقي أن يتساءل أي شخص عن: أين السياسة الأميركية من مراقبة الأعمال الاقتصادية الصينية، أو لماذا لم تحاول إيقافها؟ والجواب هو أن الصين استطاعت أن توهم حتى السياسة الأميركية بالمال وتخدعهم بأنظمتهم، فالمعلوم أن الصين هي الدولة الأكبر في العالم التي تملك سندات أميركية تقدر بـ1244 ترليون دولار في الديون الأميركية، ما جعل الصين لاعباً مهماً ومؤثراً في السياسة العالمية، ومن خلال المال لا تستطيع أميركا إضعاف الصين لوجود عدد من المصانع الأميركية في الصين، ولا تستطيع الصين إضعاف أميركا لوجود غالبية استثماراتها المالية هناك، لذلك من الطبيعي أن يكون هناك تنافس على الهيمنة العالمية عبر المال والاقتصاد فقط وبروز قطب عالمي جديد ومؤثر كالصين، ولا نستغرب حينها عندما نقرأ للفيلسوف والكاتب الساخر فولتير قوله: «عندما يكون الحديث عن المال فإن كل الناس على دين واحد». * باحث استراتيجي.
مشاركة :