التّسويف.. دثور بالكسل واغترار بالأماني

  • 11/21/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قد يحصل التسويف في حياة المرء وعمله الذي يعود إلى معاشه وتكوين نفسه، وتأمين مستقبل أولاده، ومن كان هذا ديدنه فاتَهُ كثيرٌ من معالي الأمور، وأهدر طاقةً كبيرةً يُمكنُ أن تعود بالنفع على نفسه وعلى أسرته ومجتمعه.. الدنيا دار العمل والتكليف، وقد مهّد الله الأرض لبني آدم واستعمرهم فيها، وبيّن لهم كيف يُحصِّلون مصالحهم الدينية والدنيوية، ولم يتركهم سدى هملاً، بل ربط لهم سعادة الدارين بأعمالٍ ميسورةٍ يؤدونها، منها العبادات، ومنها السعي في تحصيل الأرزاق ودفع الأخطار، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال بعض المفسرين: (يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة)، وتتنوّعُ بعض الأعمال بحسب اختلاف الشرائع عبر الأزمنة، ومن خصائص شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم الخالدة أنها شريعةُ عملٍ وجِدٍّ في أعمال الدارين، لا رهبانيةَ فيها ولا تبتُّلَ ولا تواكلَ، ومن أخطر العادات التي تقضي على العمل التسويف، فهو لحافُ الكسول الذي يتغطّى به كلّما بدا له أن يَغطَّ في نومِ الغفلة، وهو عذرُهُ الذي يُعلِّلُ به نفسه كلما أنَّبَتْهُ على عدمِ النّهضة، والتسويفُ مذمومٌ شرعاً وعقلاً، وفيما يلي وقفات تُوضِّحُ خطورته على أعمال المعاد والمعاش: الوقفة الأولى: أن من اعتاد التسويف في الطاعات أوشكَ أن يقع في الحسرةِ والندامةِ في مقامٍ لا يُمكنُ فيه استدراك التقصير، وذلك إذا حضرته المنية، (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) فهذه ساعةٌ حرجةٌ تسوءُ فيها حال الـمُسوِّفين، وقد حذّر الله من ذلك فقال: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)، ووراءها ساعةٌ أخرى يندمُ فيها من سوَّف بالتوبة، وذلك إذا امتازَ المسلمون عن المنافقين (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، فسّر ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: (وغرتكم الأماني) بالتسويف بالأعمال الصالحة. الوقفة الثانية: أن الـمُسوِّف محرومٌ من الفضلِ العظيم الذي يترتّبُ على المسارعة في الخيرات، وكُلُّ فضلٍ رتّبه الشرع على السبقِ إلى الخيرات فالمتبادر أنه يفوتُ الـمُسوِّف؛ إذ الـمُشمِّرون الحريصون على الفضل لا يتردَّدون في المسارعة إليه بمجرّد وجود السبب الداعي إليه، وقد مدح الله بعض عباده الأبرار بالمسارعة في الخيرات، فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)، وبيّن بعض ثواب المسابقة إلى الخير فقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) قال بعض المفسرين: "أي والسابقون الذين يتقدّمون غيرهم إلى الطاعات - هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعُرفت فخامة أمورهم، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه، فمن سبق في هذه الدنيا إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة، فالجزاء من جنس العمل". الوقفة الثالثة: أن من فضائل الأعمال ما هو مرحليٌّ إن لم تتداركه فاتَ محلُّهُ، ومثل هذه الفضائل تفوتُ الـمُسوِّف عادةً، ولا يلحقها إلا المجدُّ الحريص على الخير، وهذا من قبيل التفريج عن الملهوف، وعلاج المرضى، أو الإسهام في تحمُّلِ الديات، فقد يعرض مثل هذا للناس، فيُسوِّفُ الـمُسوِّفُ، ويقول في نفسه: متى أردت ذلك التحقت بركب المحسنين، فلا يزال في دوّامته تلك حتى تُفرَّجَ كربة المكروب، أو يبرأ المريض أو يُتوفّى، أو تكتمل حمالة الدية، وقد يرى الـمُسوِّفُ المليء قريبه أو جاره أو بعض معارفه وهو فقيرٌ يليق به أن يواسيه بقليلٍ من المعونةِ فيُسوِّفُ في ذلك حتى يفتح الله على هذا فتتحسّن حاله، وتفوت القربة على ذلك الـمُسوِّف، وهذا لا يقتصر على هذا القدر فالـمُسوِّفُ قد يؤخر أعمال الخير البدنية والمالية وأعمال البر من صلةِ رحمٍ، وبشاشةٍ في أوجه الإخوان مُسوِّلاً له الشيطان أنه متى شاء فعلها، ثم تعترضه موانع تحول دون ذلك من أمراضٍ وافتقارٍ ونكباتٍ. الوقفة الرابعة: قد يكون التسويف في أعمال دنيوية تتعلَّقُ بحقوق الآخرين كتسويف الموظف في أداء مهام عمله، وإذا كان كذلك كان من الحيف والظلم؛ لما يتضمنه من إخلالٍ كبيرٍ بالأمانة، فالعمل المؤجل يحتمل أن يكون مآله متردِّداً بين أن لا يُنجزَ في الوقت المحدّد له، وبين أن يحصل فيه مُرتجلاً أذهبت السرعة لُبَّهُ، وأَفْرَغَتْهُ من مضمونه، وقضى على رونقه الارتباك المستولي على من يعمل الشيء في آخر لحظة، وكلتا الحالتين استهتارٌ بحقوق ومصالح الناس، وقد يحصل التسويف في حياة المرء وعمله الذي يعود إلى معاشه وتكوين نفسه، وتأمين مستقبل أولاده، ومن كان هذا ديدنه فاتَهُ كثيرٌ من معالي الأمور، وأهدر طاقةً كبيرةً يُمكنُ أن تعود بالنفع على نفسه وعلى أسرته ومجتمعه.

مشاركة :