مَنْ مِنّا لايعرف المفكر والعالم المتميز الدكتور مصطفى محمود رحمه الله الذي تحدث في قضايا عدة، وتفوق في طرحها ونقاشها، وسحر الألباب والأفئدة بكلماته وبمعالجته لموضوعات تنتمي إلى عالم الفلسفة والسياسة والدين والأدب؟تحدث معظم الناس عن كتبه «حوار مع صديقي الملحد» و«رحلتي من الشك والايمان» وكتب أخرى مثيرة للنقاش والجدل، وانطلقت الأقاويل تردد بأنه ملحد منكر لوجود الله عز وجل في حياته وبعد مماته.نأتي هنا لنناقش بعض التفاصيل بلقاء شخصي جمعنا بالدكتور مصطفى محمود منذ سنوات طوال قبل وفاته رحمه الله. لنبدأ بولادته، فقد وُلد الدكتور مصطفى محمود في شبين الكوم بمحافظة المنوفية في السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1921، وكان أحد توأمين، لكن شقيقه تُوفي بعد ولادته بأيام، وكان الدكتور مصطفى محمود هزيل البنية يُصاب بالأمراض بسرعة كبيرة. انتقل مع أسرته إلى مدينة طنطا بمحافظة الغربية، حيث عاش هناك وأنهى المرحلة الثانوية بتفوق.أما رحلة الاستقرار الأخيرة فقد كانت إلى العاصمة القاهرة مع أسرته بعد أن تم قبوله طالبا بكلية الطب في جامعة الملك فؤاد حينذاك «جامعة القاهرة حاليا». كانت علاقة الدكتور مصطفى بوالده علاقة وثيقة، وقد تضاعفت هذه العلاقة في الفترة الأخيرة من حياة والده بعد إصابته بالشلل إثر جلطة بالدماغ. وكان محمود والد الدكتور مصطفى رجلا صبورا، فعلى الرغم من فداحة المرض الذي فتك بجسده إلا أنه لم يشك حاله يوما، ولم يتذمر من مرضه، كان يرسم الابتسامة على وجهه راضيا بقضاء الله وقدره. شعر الدكتور مصطفى بالنضوج الفكري وهو في سن العاشرة من عمره، وتولدت لديه الرغبة في السفر والترحال في سن صغيرة، وقد حقق أحلامه حينما كبر، فكانت رحلته الأولى إلى المدن القريبة من مدينة طنطا التي عاش فيها طفولته وأولى سنوات شبابه، ومن ثم تطورت إلى رحلات كبيرة، أشهرها تلك الرحلة التي سافر فيها إلى أفريقيا والتقى فيها بالقبائل التي تعيش في ظل تقاليد غريبة وغير مألوفة، وارتحل إلى الغابات والصحارى الموحشة وكتب عنها في بعض مؤلفاته في مجال أدب الرحلات. ومن المثير أن نعرف أنه التحق بكلية الطب لرغبته الشديدة في الاستكشاف والغوص في أعماق الجسم البشري لمعرفة أسراره وألغازه، وكان شغوفا بمادة التشريح، وكان أول طالب يدخل المشرحة وآخر طالب يخرج منها، وقد تخرج في كلية الطب، ومن ثم واصل دراسته حتى تخصص بالأمراض الصدرية.وإذا أردنا الاقتراب من شخصيته على المستوى النفسي، فقد كان مولعا بالاستكشاف الذي دفعه إلى الشعور بالقلق الدائم للبحث عن الحقيقة، لذا غرق في عالم القراءة. اعتزل الدكتور محمود مهنة الطب عام 1960 وتفرغ للكتابة وعمل في الصحافة، وبالإشراف على مشاريعه الخيرية التي أطلق عليها اسم والده يرحمه الله، الرجل الذي عُرف بالتقوى والصلاح. تزوج الدكتور مصطفى مرتين في حياته، وله من الأبناء أمل وأدهم، وقد أصيب في أواخر التسعينات بنزف دموي في الدماغ، وأجريت له عملية عاجلة، وظل في شقته بحي المهندسين في مدينة القاهرة حتى توفاه الله في 31 أكتوبر عام 2009 عن عمر يناهر 88 عاما. هل كان ملحدا؟ علقت فكرة إلحاد الدكتور مصطفى محمود بفكر الكثيرين، وربطوه بلقب الملحد، ولايزال في نظر الكثيرين هو ذاك الملحد الذي ينكر وجود الخالق، وهنا موضع النقاش، وبسؤال مباشر وجهته له قلت فيه: هل مررت بمرحلة إنكار وجود الله؟ أجابني بسرعة: «لم يحدث هذا الشيء على الإطلاق، فالله هو الحقيقة المؤكدة في كل الكون، ولم تغب هذه الحقيقة عن عقلي ولا قلبي، فالبرهان شاخص نشاهده بأعيننا، قد أشك في أي شي إلا وجود الله عز وجل، لقد بالغ البعض في إلصاق التهم بي». وأضاف: «المسألة بسيطة تتلخص في كوني مفكرا، وهذا يعني أنني أفكر، فيظن الناس أنني إذا فكرت فهذا يعني أنني كفرت، كنتُ أتساءل عن قضايا حساسة جدا من مثل حرية الانسان وغيرها، ووصلت في النهاية إلى حالة يقين، هكذا الأمر ليس أكثر، المشكلة في الآخرين أنهم يتوهمون أفكارا، ويرونها حقيقة ثم يروجون لها وينسبونها إلى فكري، فالعيب في فهمهم للأشياء وليس في فكري، أنا بريء من هذه التهم، وهذا الأمر يؤلمني كثيرا لأنه لايمثل الحقيقة، ربما يحاربونني لأن فكري منفتح، ولأنني أدقق في التفاصيل وأفتت الأشياء، وأبحث في أعماقها». وهكذا أعلن الدكتور محمود يرحمه الله أنه لم يلحد في حياته ولم يكن الله عز وجل موضع شك في حياته أبدا. وكيف يلحد وهو القائل في كتابه «رحلتي من الشك إلى اليقين»: «وأوْلى بنا أن نؤمن بعالم الغيب خالقنا البر الكريم، الذي نرى آثاره في كل لمحة عين وكل نبضة قلب، وكل سبحة تأمل، هذا أمر أوْلى بنا من الغرق في الافتراضات والتكهنات». ونقول هنا لعله من الطبيعي أن يتساءل البعض في العوالم الغامضة من باب الاستكشاف من مثل: من أين أتيت؟ وإلى أين سأذهب؟ وماذا بعد الموت؟ هل ينتهي كل شيء إلى تراب؟ ومن أنا على وجه الحقيقة؟ وماذا كنت قبل أن أولد؟ وغيرها من الأسئلة، وهكذا تمطر الألغاز والتساؤلات في ذهن الانسان، فيحاول أن يحل الألغاز ويجيب عن التساؤلات المحيرة، ويأتي اليقين، وتزول سحب الغموض بتدبرتدقيق لكلام الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم، وفي سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.المواجهة الأولى والمحاكمة السرية تعرّض الدكتور مصطفى محمود إلى محنة مواجهة بعض الخصوم من الاتجاهات الأخرى المخالفة لفكره ومنهجه البحثي، وقد واجهت كتاباته احتجاجا من بعض رجال الدين ومن بينهم رجال الأزهر، واستمرت هذه المواجهات الفكرية والسياسية حتى السنوات الأخيرة من حياته، خاصة في كتاباته الأدبية. ولعل من بين أبرز المواجهات كتابه «الله والإنسان» الذي ناقض فيه أمورا تتعلق بالدين، وتعرض بسبب الكتاب إلى المحاكمة التي تداخلت فيها الجوانب السياسية، وكانت المحاكمة في شهر رمضان في زمن الرئيس جمال عبدالناصر، وانتهت المحكمة لمصادرة كتابه دون إصدار حكم في حق مؤلفه، ودون إبداء أسباب مصادرة الكتاب.وقام الدكتور محمود بتفريغ محاور كتابه «الله والإنسان» في كتابه «حوار مع صديقي الملحد» وقد لاقى الكتاب انتشارا واسعا وترجم للغات عدة. كما اجتمع رجال الأزهر عام 1996 بحضور وزير الأقاف احتجاجا على كتابه «زيارة للجنة والنار» وهي مسرحية من الخيال العلمي، وكان سبب احتجاجهم على الكتاب أنه يتحدث في موضوع عالم غيبي لم يره المؤلف، يقول الدكتور محمود في مقدمة مسرحيته: «الجنة والنار من حيث حقيقتهما وحقيقة ما يجري فيهما، وكيفيات النعيم وكيفيات العذاب هما غيب لانعلم به ولايعلم به إلا الله، وقصارى ما نعلمه بيقين أن الجنة هي دار النعيم، وأن النار هي دار العذاب، وأن النعيم حق والعذاب حق، ولكن الكيفيات والتفاصيل غيب...».مصطفى محمود وقلق الموت حين سألته عن همومه، توقف برهة وأخذ نفسا عميقاً، ثم قال: «كتبتُ في كل القضايا التي كنت أودُّ الكتابة فيها، وكتبتها بشكل صريح أمّا عن القلق فهو حقيقة منغرسة في أعماقي ولا أستطيع أن أنكر هذه الحقيقة مهما حاولت، فهذا القلق شيء جوهري يحتل مكانة في عقلي، ولكنه لايمثل لي جانباً سلبياً، أعلن للناس قلقي الشديد المنحصر في قضية هموم المصير، وهي القضية الكبرى بالنسبة لي، التي لا تغيب عني أبداً» فقلت له: هل تقصد الموت؟ هل تخاف من الموت؟ رد عليّ بشكل سريع ونظراته تتحرك في كل الزوايا: «لا... ليس لدي خوف من الموت، لأنني حين أخاف فإنني أخاف من شيء أستطيع منعه، ولكن يمكن أن تطلقي عليه كلمة قلق، إلا أنه قلق غير عادي فهو قلق خلاّق يدعم الوازع الديني في نفسي، ويدفعني لأن أكون حريصاً على نيل رضا الله عز وجل، وقضية رضاه من عدمه مسألة غيبية، لا أستطيع الوصول لها، وهنا يأتي القلق في هذه الزاوية بالذات، وقد دفعني القلق إلى عمل مشاريع خيرية كثيرة، وأن أشرف عليها بنفسي».وأضاف يرحمه الله: «يجري الإحساس بالموت في دمي بشكل دائم، لذا فأنا أرى الإنسان نعشاً متحركاً، وسوف يقع يوماً ما ولايتكلم، متى يُساق للموت، وكيف ؟... هذا ما لا أعرفه، كل ما أعرفه أن الموت يعمل بصمت في أجسادنا وعقولنا بصفة استمرارية غير منقطعة، والحياة تكون غالبة، ولكن في يوم سيغلب الموت الحياة، إن الإنسان جثة تسير على ساقين». وهكذا يرى الدكتور محمود أننا معنوياً نموت، وأدبياً نموت، ومادياً نموت في كل لحظة لأن الحياة هي عملية موت، والموت في حقيقته حياة. كما يرى الدكتور محمود أن الحياة أزمة وتوتر، وأننا نذوق الموت في كل لحظة، ونعيشه، فلا نضطرب بل على العكس، نُحس بكياننا من خلال هذا الموت الذي يعيش بداخلنا، يسبب لنا هذا الموت الذي يعيش في الظلام أزمة ويخلق لنا الأسئلة التي تبعث في أنفسنا الدهشة والقلق والذعر، ولكنها لا تسبب الجزع والمعاناة. الموت في الزاوية الأخرى كما يراه الدكتور محمود هو نظام كوني فيه جانب الخير. ويظل لغزاً غريباً وغامضاً. قال لي وهو يبتسم: «لا يوجد موضع في جسدي لم يدخله مشرط الجراحة، ولا يوجد مكان لم يزره الجراح». وهكذا انتهت حياة مفكر فذ بقضاء الله وقدره بالموت الحقيقة الكبرى التي كان يفكر فيها كثيراً، غادر الدنيا جسداً، ولكنه خلد اسمه فكراً وروحاً. وهكذا ترتحل الأجيال المتعاقبة إلى عوالم فكره بشغف وحب واستطلاع نظراً لثقل علمه وعبقريته وكتاباته التي تمثل في بعضها منهجاً يساير كل الأجيال، فلم تتوقف عند عصره فقط. رحم الله الدكتور مصطفى محمود، وشمله بواسع مغفرته. اللهم ارحمه واغفر ذنوبه، وأعف عنه وتجاوز عن زلاته وعثراته، وتقبل أعماله الخيرية الصالحة قبولاً حسناً، اللهم وأسكنه الفردوس الأعلى في الجنة وجميع موتى المسلمين.* مقتطفات من لقاءات جمعت بين الدكتورة هيفاء السنعوسي والدكتور مصطفى محمود في منزله بالقاهرة عام 2001 والتفصيل موجود في مقدمة كتابه «الوجود والعدم» الذي أعيدت طباعته مرات عدة من قطاع الثقافة بدار أخبار اليوم.
مشاركة :