ينتابني خيال واقعي، أو واقع خيالي، لفكرة سحب البيانات والمعلومات التي تجمعت وتراكمت في ذاكرة الأمير سعود الفيصل خلال العقود الماضية، بصفته وزير خارجية المملكة العربية السعودية. وبعد ذلك القيام بتبويبها وتصنيفها ثم حفظها في الإرشيف الوطني ليستفيد منها الوطن خصوصاً الأجيال القادمة من الطلبة والباحثين والدارسين للدبلوماسية والعلوم السياسية. هل من الممكن أن تتخيلوا معي حجم تلك البيانات وما يتبعها من صوت وصورة؟ أربعون عاماً وهذا الوزير الشاب/ الكهل ينافح في كل الجهات ويكافح في الجبهات كافة بكل دأب وهمة ونشاط عن السياسة السعودية. عاصر كوزير للخارجية، الملوك خالد وفهد، رحمهما الله، وعبدالله حفظه الله، وقبل ذلك وبعده هو ابن الملك فيصل، رحمه الله، مؤسس الخارجية السعودية. في مقابل ذلك تعامل سعود الفيصل مع سبعة رؤساء للولايات المتحدة لأمريكية، من فورد وصولاً إلى باراك أوباما، وسبعة رؤساء وزارة للمملكة المتحدة (بريطانيا) من ويلسون حتى ديفيد كاميرون، وخمسة رؤساء فرنسيين بدءاً بالرئيس جيسكار ديستان إلى الرئيس الحالي هولاند، خبر هذا الوزير المخضرم عدداً من رؤساء الاتحاد السوفييتي: بريجنيف حتى غورباتشوف، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي تعامل مع يلتسين وميدفيديڤ والرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين. وخبر سياسة الصين من الدستور الأول حتى الدستور الرابع الحالي. وبالتالي فالأمير الوزير هو أرشيف وطني للدبلوماسية والسياسة الخارجية السعودية والدولية. هذا الكنز المعرفي لدى سعود الفيصل الذي تراكم عبر سنوات وعقود مرت فيها السعودية والعالم بتحولات وتغيرات كثيرة وكبيرة، ولا بد من أن يسجل ويوثق. لا نبالغ إذا ما جادلنا أن سعود الفيصل يعتبر مرجعاً مهماً في العلاقات الدولية والشؤون السياسية، ليس للسعودية أو الخليج أو العالم العربي فحسب، بل للعالم أجمع. فقد خبر ساسة الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والعرب والعجم، في حقب متعددة ومختلفة ومتفاوتة ومتهافتة، ويمكن لمخزونه الفكري والمعرفي أن يبني نظريات ويدحض أخرى. ولذا استمرت فكرة لقاء مطول مع هذا الوزير المخضرم تراودني من فترة لأخرى حتى أصبحت واحدة من الأماني الشخصية لتأليف كتاب عن «الثابت والمتغير في السياسة الخارجية السعودية». يرتكز جوهر الكتاب على أرضية معلومات تأتي مباشرة من هذا الأمير الوزير في مقاربة بين النظرية والتطبيق، وأجزم بأن هذه الرغبة أو الأمنية راودت الكثير من المهتمين بالتوثيق والتاريخ والسياسة. يسرح الخيال أحياناً وتتعاظم الأماني بأن أفتش في فكر سعود الفيصل عن عدد من القضايا المعاصرة التي تزعجنا يومياً، بل كل ساعة، في وسائل الإعلام التليد والجديد. تلك القضايا التي يلف الكثير منها الغموض وهي من التعقيد بحيث لا يفك طلاسمها تصريح هنا أو هناك، فالسياسة كما يعرفها كثيرون هي حرب، والحرب كما نعرفها هي خدعة، ولذا يصعب، بل يستحيل فهم نتائج السياسة عبر أسئلة الصحفيين أو أجوبة السياسيين، لما فيها من ظاهر وباطن، ومعلن وخفي. المثير، أنه مع ذلك الغموض، الذي قد يراه البعض مطلوباً في السياسة، تزداد الشائعات والتخرصات ونسمع ونشاهد تحليلات هنا وهناك في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، تزيد من حالة الخوف والارتباك لدى كثير من أطياف المجتمع. صحيح أنه ليس من العادة في مجتمعنا كتابة السياسة، لكن الوطن بحاجة إلى تسجيل وتوثيق التاريخ، والأجيال الجديدة لم تعد تؤمن بالروايات المحكية لأنها تبدو لهم كالأساطير. السعودية اليوم فاعلة سياسياً ومنفعلة أيضاً، ومن حق الوطن على هذا الأمير الوزير الفطن، أن يكسر عتبة التقليد ويبوح عن ذاكرة 40 عاماً. من حقه، أيضاً، أن يضع شيئاً من الدوائر الحمراء على قضايا يكون إثم نشرها أكبر من نفعه شريطة ألا تصبح الوثيقة كلها دوائر حمراء مثل شهادتي في المرحلة الإبتدائية فتوثيق السياسة الخارجية السعودية بات ضرورة تخدم الحاضر والمستقبل. السعودية أمة/ دولة تنشد العلياء منذ تأسيسها وكانت السياسة الخارجية تخطيطاً وتنفيذاً تتم في أضيق الحدود من ناحية، كما أن تلك السياسة كانت وما زالت تخضع لمفهوم «الكتمان»، من ناحية أخرى. لكن تكاثر المعنيين بتنفيذ السياسة الخارجية من موظفين وسفراء، من جانب، والشفافية والوضوح والتوثيق السائد اليوم، من جانب آخر، ألغى محدودية المعنيين بالسياسة الخارجية وأسلوب الكتمان أيضاً. الأهم من ذلك، أن السياسة الخارجية السعودية كانت حريصة كل الحرص على وضع دوائر تحدد الأهم والمهم على ضوء الأحداث الإقليمية والعالمية، ومتى تتقدم السعودية ومتى تبتعد. لكن عدداً من المتغيرات الدولية قذفت بالسعودية إلى واجهة الأحداث مما جعل من العسير على السعودية أن تستكين أو تبتعد أو تتكتم. الاختلال والتوازن في العلاقات بين القوى العظمى والكبرى دولياً وإقليمياً وخليجياً، من ناحية، وتساقط قوى ونشوء قوى أخرى في محيطنا العربي، من ناحية ثانية، وظهور هبات من رياح الحرب الباردة بين القوى العظمى مستخدمة التناحر والتخاصم الإقليمي، من ناحية ثالثة، والمعضلة الأمنية وسباق التسلح الإقليمي، من ناحية رابعة، وارتباك أسواق النفط، من ناحية خامسة، وازدياد الوعي المجتمعي والرغبة في المشاركة والنقد، من ناحية سادسة، يضع السعودية ترساً أساسياً في عجلة السياسة الدولية، وكل ما سبق متراكم في ذهن الأمير الوزير سعود الفيصل. يدرك الجميع أن سياسات الدول ودبلوماسيتها تقع في أخطاء غير محسوبة أو نتائج غير متوقعة ولذلك يصبح لزاماً على كل دولة تنشد التقدم وعدم تكرار الأخطاء أن تراجع ممارساتها السياسية؛ وهذا لا يتم إلا بالتوثيق كي تتمكن الأجيال الجديدة من الاستفادة من التاريخ بما فيه من خطأ وصواب. وإذا كان البعض يؤمن بمقولة «إن التاريخ يعيد نفسه»، فآخرون يؤمنون بأن عدم التوثيق يجعل من تكرار الأخطاء أكثر حتمية وأقرب للحدوث. أخيراً، لقد انتهج الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية نهجاً جميلًا في مزيد من الانفتاح على الإعلام وكتاب الرأي وبات يباشر بنفسه حضور المؤتمرات الصحفية التي يشهد لها الكثير بالشفافية والإنفتاح، وذلك يحسب له. لكن المطلوب من سموه أكثر وأكبر. وهنا نتساءل: هل يقبل سمو الأمير أن يتم استقاء المعلومات من أرشفة الدول الأخرى أو مذكرات ساسة ودبلوماسيين لا يمكن الجزم بصحتها أو الثقة بها؟ ختاماً، السعودية اليوم لم تعد هي السعودية بالأمس؛ لأن عناصر السياسة كثيرة ومتشعبة تغيرت وتعقدت، وأضحت السعودية اليوم في «عين العاصفة» إستراتيجياً، وسياسياً، واقتصادياً، ومالياً، وثقافياً، وعلى الصعد كافة الإقليمية والدولية والعالمية، وحتى الكونية. وبالتالي، فإن مهمة تفريغ شيء من ذاكرة الأمير الوزير باتت ملحّة ومطلوبة. فهل يستجيب الأمير؟ يشدو محمد عبده: للجسم حد وغايتك مالها حدود ظلمت نفسك من قديم وتالي تمشي وعرها كنها سهود ومهود لله درك ما تغاليت غالي ينشد غازي القصيبي: ويرتجز الأعداء هذا برمحه وهذا بسيف حده ناقع الحبر لحا الله قوما صوروا شرعة الهدى أذانا ببغضاء.. وحجا إلى الشر يعادون رب العالمين بفعلهم وأقوالهم ترمي المصلين بالكفر # طراديات «يا أمير سعود خلك وزير ودود.. لاتعتذر بمافي داع أو بلاش.. عندك الميموري وعندي الفلاش».
مشاركة :