كان الأمر سيكون قابلا للتصديق أو لتسويق أسباب تبرر خروج الناس إلى الشوارع بحثا عن لقمة العيش وهيجان الشباب وانتفاضاتهم في وجه السلطات طلبا للعمل الشريف الذي يعد حقا مطلقا من حقوق الإنسان، نقول: سيكون الأمر قابلا للنقاش لو أن الذي يحدث الآن في جنوب العراق، وتحديدا في مدينة البصرة، يحدث في بلد يفتقر إلى الثروات الطبيعية ويعيش على الكفاف ومساعدات الخارج، كما يحدث مثلا مع عديد من الدول الفقيرة، لكن الأمر هنا يختلف اختلافا حادا، فالعراق أحد أغنى دول الخليج العربي، بل والعالم العربي والشرق الأوسط بشكل عام، فهذا البلد العربي يسبح على ثروات طبيعية هائلة يهدرها الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة الأمر الذي جعل أجهزة الدولة عاجزة عن مواجهة المتطلبات اليومية الطبيعية للمواطن العراقي في عديد من محافظات العراق أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة واتساع هوة الفقر في المجتمع العراقي. الشعب العراقي بعد جريمة الغزو الأمريكي في مارس من عام 2003 دخل مرحلة حرجة من المشاكل والإضرابات السياسية والأمنية دفع ثمنها أبناء هذا الشعب من مختلف مكوناته في الوقت الذي كانت فيه النخب السياسية التي جاء جلها على عربات الغزو الأمريكي، مشغولة بخلافاتها على اقتسام الغنائم والمناصب الأمر الذي «زاد الطين بلة»، كما يقول المثل، يضاف إلى ذلك تصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية التي عاثت في أرض العراق قتلا وتدميرا وكادت أعمالها أن تزج بالشعب العراقي في أتون حرب أهلية داخلية بين مختلف مكوناته العرقية والدينية والمذهبية. انتفاضة البصرة، كما بدا البعض يطلق على الاحتجاجات التي تشهدها المحافظة العراقية التي تعتبر من أغنى المحافظات من حيث وجود الثروة النفطية في باطن أرضها، هذه الانتفاضة وإن كانت تسير تحت مطالب الخدمات والاحتياجات المعيشية وتوفير فرص العمل، إلا أنها في جوهرها موجهة ضد آفة الفساد الذي ينخر المنظومة السياسية والإدارية العراقية، فهذه الآفة، إلى جانب الحرب ضد الإرهاب، أسهمت في استنزاف عائدات النفط الضخمة التي تتدفق على الخزينة الوطنية العراقية والتي تقدر بمليارات الدولارات، في الوقت الذي يئن فيه المواطن العراقي من وطأة انعدام الخدمات وارتفاع نسبة البطالة بين أبنائه. فالأزمات والمشاكل السياسية والمعيشية التي يعاني منها المواطن العراقي في جميع محافظات العراق، أصبحت نتائج طبيعية لأزمة نظام سياسي يعاني حالة عدم استقرار ويفتقد إلى رؤية وطنية واضحة، فنظام المحاصصة العرقية والطائفية الذي دشنه الغزاة الأمريكان، هو أس المعضلة وبؤرة الخلل الذي يؤدي إلى عجز النظام عن مواجهة الاستحقاقات الوطنية، ومنها المتطلبات المعيشية والخدمية للمواطن العراقي، والتحركات التي بدأتها القيادة السياسية العراقية بعد المنحى الخطير الذي اتخذته أحداث البصرة، ليست سوى إجراءات مسكنة وليست حلا وعلاجا. فالعلة التي أججت الشارع العراقي في الآونة الأخيرة في صورة انتفاضة البصرة الحالية، ليست وليدة آلام آنية ألمت بأجساد المواطنين العراقيين، وإنما هي علة استوطنت هذه الأجساد منذ فترة طويلة وكان لأنشطة الجماعات الإرهابية وتصاعدها وتحولها إلى خطر داهم يهدد جميع مكونات الشعب العراقي، دور في تأخير الإفصاح والشكوى العلنية (الانتفاضة) من اشتداد آلام هذه العلة، فكيف للقيادة السياسية في العراق ألا تعلم بوجود هذه العلة في أجساد شرائح واسعة وكبيرة من أبناء الشعب العراقي وفي جميع المحافظات؟ الإجراءات التي تتحدث عنها الحكومة العراقية لمواجهة انتفاضة البصراويين وأشقائهم في المناطق الأخرى، مثل توفير المزيد من فرص العمل وتخصيص اعتمادات مالية إضافية لمواجهة نقص الخدمات وتحسينها، بما في ذلك توفير المياه الصالحة للشرب، هي إجراءات تستهدف امتصاص حالة الغضب التي تنتاب المنتفضين، خاصة بعد سقوط عدد من القتلى في صفوفهم جراء إصابتهم بالأعيرة النارية الحية، لكنها بكل تأكيد ليست الحلول الجذرية للعلة التي يعانيها أبناء الشعب العراقي، فالمشكلة بحاجة إلى إجراءات تؤدي إلى استئصال الأسباب التي أدت إلى ظهورها. العراق أمامه مشوار طويل لتجاوز ما خلفته جريمة الغزو الأمريكي ومن رحب بها وأيدها ودعمها، من أمراض سياسية واجتماعية واقتصادية وما تسببت في نشره من آفات خطيرة بين مختلف المكونات المجتمعية العراقية، وما العلل التي يعاني منها المواطن العراقي في الوقت الراهن والأسباب التي دفعت بأبناء البصرة إلى الانتفاضة هي إحدى نتائج هذه الأمراض وانتشار تلك الآفات، فإذا كان الهرم السياسي في العراق جادا في مواجهة والقضاء على الأسباب التي أدت إلى إفقار المواطن العراقي، فعلى الجالسين فوق قمة الهرم أن يباشروا العلاج من الأعلى. المواطن العراقي بإمكانه الاحتجاج والحديث عن انتشار الفساد والمحسوبية، لكن المواطن، حتى الآن لا يملك أدوات مكافحة واستئصال هذه الآفات الخطيرة، فعلة العراق تكمن في انتشار هذه الآفات وعشعشتها في مختلف طبقات الهرم السياسي العراقي، فالبدء بالعلاج من هذه الطبقات يمثل الخطوة السليمة والحقيقية على طريق الخروج من مستنقع جريمة الغزو الأمريكي، لكن هذه الخطوات تحتاج أولا إلى إرادة سياسية وطنية متحررة من الجريمة ذاتها وما جلبته معها من غنائم.
مشاركة :