لم يُكتب مصير إدلب يوم 7 سبتمبر 2018 مع انعقاد القمة الروسية- الإيرانية- التركية في طهران وجلسة مجلس الأمن الدولي لمتابعة الوضع في هذا الجزء من الشمال السوري، بل إن تطور مسار الحروب السورية منذ التدخل الروسي قبل ثلاثة أعوام، وميزان القوى الدولي والإقليمي، كانا يقودان نحو نتيجة لمصلحة المعسكر الداعم للنظام. لكن معركة إدلب لن تكون الأخيرة في حقبة تصفية الحروب السورية بل إن مصير المناطق التي تتواجد فيها قوات أميركية في شمال وشرق الفرات سيكون محور تجاذبات حساسة وأبرزها اختبار قوة بين موسكو وواشنطن. ولذا فإن الفصل الجديد الذي سيدور في إدلب وجوارها يندرج في سياق رقصة الموت المتنقلة على الركام السوري منذ 2011، وسيزيد من انطباع المنظومة الحاكمة بتحقيق النصر الحاسم واستمرار بقائها إلى الأبد، لكن الانتصار في معركة السلام هو مسألة أخرى. أما مستقبل سوريا فيبقى مرهوناً بمسار إعادة تركيب الإقليم وعدم انتهاء الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية. قبل قمة طهران وجلسة نيويورك، كانت كل الدلائل تشير إلى بدء العد العكسي لهجوم في جنوب وغرب إدلب، أو لترتيب روسي- تركي توافق عليه إيران، خاصة بعد إعلان أنقرة إدراج هيئة تحرير الشام على لائحة المنظمات الإرهابية. ومع النجاحات في حسم معارك الغوطة والجنوب خلال هذا العام، بدأت روسيا في الاستعداد لما تعتبره المنازلة الأخيرة ضد آخر معاقل القوات المناهضة لبشار الأسد، ولهذه الغاية أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتجميع أكبر حشود جوية وبحرية قتالية تنشرها روسيا من أجل عملية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويشكل ذلك رسالة لواشنطن وقفزة في مسعى فرض “الانتداب الروسي” وتحقيق إنجاز سياسي يترجم الإنجازات العسكرية. ومن جهة أخرى، أفادت مصادر سورية عن إرسال إيران، هذا الأسبوع، مجموعات إضافية من الحرس الثوري ومن الباسيج للمشاركة في معارك شمال غربي سوريا، وربما يمثل ذلك تطبيقاً لاتفاقية التعاون العسكري الإضافية التي وقعها وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي إلى دمشق في الأسبوع الماضي. وهكذا تتماشى موسكو وطهران مع التزامهما السياسي والعسكري إلى جانب نظام الأسد لاستكمال الحسم العسكري. أما تركيا التي تعتبر أن أمنها القومي سيكون على المحك في حديقتها الخلفية في الشمال السوري فتوجد في الخط الأمامي، وتحاول معارضة هجوم واسع النطاق قرب حدودها ولكنها تحتفظ بموقف غامض، لا سيما في تعاملها مع الجماعات المتطرفة، وتبرر ذلك بسبب أولوية قتالها ضد الأكراد السوريين في حزب الاتحاد الديمقراطي (المرتبط بحزب العمال الكردستاني). في مواجهة هذا الاستحقاق، تسعى أنقرة للاستفادة من اهتمام موسكو بزعزعة التزامها الأطلسي، ورغبة واشنطن في عدم خسارتها بالرغم من علاقاتها المتوترة مع أنقرة التي أثرت على الاقتصاد التركي. وكان من اللافت أن تصاعد الضغوط حول إدلب في الأيام الأخيرة أتاح استئناف الاتصالات الثنائية وقام الممثل الأميركي الخاص لسوريا جيمس جيفري بزيارة إلى أنقرة يوم الثلاثاء وأجرى محادثات مع وزير الدفاع التركي. ومن هنا يمكن لتركيا أن تراهن على تعزيز موقفها في قمة طهران في مواجهة الروس والإيرانيين لجهة اهتمام ترامب المفاجئ بالملف السوري وتغريداته التحذيرية حيال “مأساة في إدلب”، ودعوة واشنطن إلى عقد اجتماع خاص لمجلس الأمن الدولي في نفس يوم انعقاد قمة طهران. لكن لا يظهر أن موسكو سيلين تصميمها ويبدو كأنها لا تأبه بالتصريحات المشتركة أو المنفصلة لواشنطن وباريس ولندن، وتكرار توخي التدخل فقط في حالة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام السوري في الهجوم. وفي هذا السياق اعتبر الكثير من المعارضين السوريين أن التحذيرات الأخيرة تشبه نوعاً من ضوء أخضر لهجوم بالأسلحة التقليدية، وتأكيدا لتخل أميركي وغربي منذ معركة حلب أواخر 2016. عشية اجتماعي طهران ونيويورك تسرب توصل الروس والأتراك إلى اتفاق على خمس نقاط: – تولّي تركيا حل هيئة تحرير الشام ومنحها الوقت الكافي لإتمام ذلك. – إنشاء نقاط عسكرية روسية في المناطق التي تتواجد فيها النقاط التركية ودخول النظام لها إداريا وليس عسكريا. – تعهد تركيا بعدم استهداف القوى المعارضة الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها باستهداف مناطق النظام أو قاعدة حميميم والقوات الروسية. – فتح الطرقات الدولية بضمانات الدول الثلاث حيث تقوم كل دولة بتأمين الطريق في مناطق سيطرتها. – إرساء تعاون استخباري تركي مع روسيا وإيران ضد القوى الإرهابية. بغض النظر عن مجمل المناورات الدبلوماسية للأطراف المنخرطة، لا يبدو أن العامل الإنساني في الحسبان لأن محافظة إدلب التي كانت تضم أقل من 900 ألف نسمة قبل 2011، يسكنها اليوم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بعد تدفق النازحين من كل سوريا إليها، وكذلك المقاتلين من حلب والغوطة والرقة والقنيطرة والقلمون ودرعا وغيرها. والمريع اليوم في حال إتمام الهجوم لن تكون هناك إدلب أخرى بعدما أراد البعض جعل إدلب الحالية “تورا بورا جهادية” لإتمام مخطط التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي. لن يكون هناك من مكان آمن للبؤساء والهاربين من الجحيم لأن تركيا بنت جداراً محصناً تحميه جندرمتها، ولأن ما تبشر به الأمم المتحدة من نزوح ممكن لـ800 ألف شخص لا يبدو أنه يحرك ما تبقى من ضمير عالمي إزاء قتل الإنسانية ونفيها في سوريا. هكذا يمكن للترتيبات بين أطراف اتفاقيات أستانا وسوتشي تقرير مصير الفصائل المقاتلة. وفي هذا الإطار يقول مصدر سوري إن تأخر أنقرة في معالجة وضع جبهة النصرة كان يعود إلى رغبتها في استخدامها شرق الفرات ضد الأكراد وربما الأميركيين. ومن المعيب أن يتنبه البعض في العالم إلى أن بعض أنحاء إدلب تؤوي أهم مراكز تنظيم القاعدة، وكأن الدول الأطلسية وروسيا وتركيا وإيران لم تراقب وتسمح -بشكل أو بآخر- بتجمّع أطراف “حرب الجهاديين” من متطرفين وميليشيات موالية لإيران على السواء. ضمن هكذا عبث عنفي واستخدام للأرض السورية كمسرح تصفية حسابات وصعود قوى دولية وإقليمية، لا يهم مصير إدلب صناع القرار في العالم، ويبدو أن أمرها متروك لثلاثي قمة طهران وخاصة لتفاهمات وتجاذبات موسكو وأنقرة.
مشاركة :