العراق: نظام سياسي فاسد قوته في ضعفه

  • 9/8/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

خرجت مدينة البصرة عن سيطرة الحكومة إذ أحرق المتظاهرون عددا كبيرا من المنشآت الحكومية فضلا عن مقرات الأحزاب السياسية والميليشيات العسكرية في صورة رمزية تذكر بمآل ما سمي بـ”العملية السياسية” التي انطلقت قبل عقد ونصف العقد بعد الغزو الأميركي والتي نقلت البلاد من استبداد الحزب الواحد إلى استبداد النخبة الطائفية المهيمنة وفسادها. لم تندلع التظاهرات في مدينة البصرة بصورة مفاجئة بل تطورت ببطء طوال العام الماضي في كل مدن جنوب العراق. خلال العام 2017 تجاوز عدد التظاهرات 200 تظاهرة احتجت جميعها على ضعف التزويد بالكهرباء والماء وقلة فرص العمل، وطالبت بزيادة الأجور وتطوير البنية التحتية والخدمات العامة. ومع بداية فصل الربيع لهذا العام 2018، حشدت التظاهرات أعدادا أكثر وتواصلت في جنوب البلاد. حدث التحول النوعي في حجم وعدد التظاهرات في فصل الصيف وتحديدا خلال الشهرين الماضيين حيث لا يمر يوم واحد من دون عدة تظاهرات في أنحاء متفرقة من البلاد، وصولاً إلى اليوم الذي شهد انتفاضة شعبية عارمة في مدينة البصرة. لم يشكل تزايد أعداد التظاهرات في فصل الصيف مفاجأة بحد ذاته، إذ يحدث ذلك في كل عام حيث يزيد حر الصيف الشديد من آلام العراقيين ومن إحباطهم من حقيقة مرور عقد ونصف العقد من الفشل التنموي للبلاد. الجديد هو حدة غير مسبوقة لتلك التظاهرات وغياب الاستقطاب الطائفي ومهاجمة الطبقة السياسية وليس الحكومة العراقية فقط. يعبر ذلك عن فقدان الأمل في قدرة تلك الطبقة على تحقيق أي تقدم اقتصادي وخدماتي وفقدان الثقة بالنظام السياسي بصورة عامة. كان السقوط اليسير لنظام صدام حسين بعد نحو شهر على بدء الهجوم العسكري الأميركي دافعاً للتفاؤل من قبل حكام العراق الجدد، وهم في ذلك الوقت خليط من قوى الاحتلال وطبقة سياسية طائفية كانت منفية خارج البلاد وعادت على ظهر الدبابة الأميركية لتعد العراقيين بمستقبل ديمقراطي مشرق. الإدارة الأميركية بدورها روجت لمقولة أن حل جميع مشاكل العراق، ومعه كل دول المنطقة، يكمن في إحلال الديمقراطية التي ستحقق، بصورة ما وفي يوم ما، استقراراً سياسياً وتحافظ على السلم الأهلي وتخفف من جاذبية التنظيمات المتطرفة لقاعدة واسعة من الشباب الذي عانى من بطش الأنظمة السلطوية. وفوق كل ذلك روج البعض إلى أن الديمقراطية قادرة على وضع البلاد على المسار الصحيح للنمو الاقتصادي بما يحدث قفزة تنموية تشبه القفزة التي حققتها دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا وبعض دول أميركا اللاتينية. بالطبع، لم يحدث أي من ذلك في العراق. بل حدث العكس تماما، إذ بعد عقد ونصف العقد على بداية “عهد الديمقراطية” يرزح العراقيون تحت حكم دولة فاشلة وحكومة غارقة بالفساد وعاجزة، أو غير مهتمة، بتقديم الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم والماء القابل للشرب، فضلا عن حق العمل. وفوق كل ذلك تنتعش التنظيمات الجهادية في العراق الذي خرج للتو من معركة طويلة معها كلفته خسائر بشرية ومادية هائلة وزيادة في حدة الانقسام الأهلي وتعميقاً للنفوذ الأجنبي الأميركي والإيراني في البلاد. انطلاقاً من ذلك شعر المواطنون العراقيون، وخاصة أولئك الذين دعموا تغيير نظام صدام حسين حالمين بنظام سياسي ديمقراطي وعادل، شعروا بالاغتراب عن النظام السياسي القائم. تحققت الديمقراطية ولم تتحقق أي من أحلامنا، يردد العراقيون الغاضبون. أدرك العراقيون فساد الأحزاب السياسية ولكنهم أدركوا أيضاً فساد النظام السياسي نفسه، وعدم قدرته على نقل العراق من مرحلة الضعف الاقتصادي والتفتت الأهلي، إلى مرحلة يكون فيها العراق بلداً متطورا يقدم الحاجات الأساسية لمواطنيه. يفترض أن تكون الديمقراطية وسيلة لإنجاز تعاقب سلمي للحكومات التي تعمل على خدمة المواطنين ضمن منظور اقتصادي اجتماعي عام وتخطيط طويل الأمد. بهذا المعنى تضمن الديمقراطية محاسبة الحكومات واستبدالها بما يخدم الهدف العام المتمثل في التنمية الاقتصادية والسياسية للدولة والمجتمع. وعندما تفشل الديمقراطية في تحقيق ذلك، لأسباب متعددة منها فشل وفساد النظام السياسي الديمقراطي نفسه، تفقد وظيفتها الرئيسية ومعناها، ولا يبقى من خيار سوى العمل من خارج النظام السياسي. بهذا الشكل تحدث الثورات والانتفاضات الشعبية عبر التاريخ سواء في الأنظمة السلطوية أو الديمقراطية. إفقار شديد ومتواصل للطبقات الشعبية وعجزها عن تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لها ولأبنائها، وتوصلها لقناعة باستحالة الإصلاح من داخل النظام السياسي تدفعها إلى الثورة على ذلك النظام. فهل ما نشهده في العراق اليوم هو ثورة؟ إنها انتفاضة شعبية على نظام سياسي ضعيف وفاسد، ولكن احتمالات نجاحها ضئيلة نسبياً بسبب طبيعة ذلك النظام بالذات. إنها مفارقة بكل تأكيد، حيث يتسبب ضعف الدولة وتوزع مراكز القوة بعجزها عن قيادة عملية تنموية ذات معنى وبغضب المواطنين من جهة، ولكنه في نفس الوقت يحميها من خطر “الإسقاط” من قبل الجماهير المنتفضة بسبب عدم وجود مركز سياسي يستقبل نقمة الجماهير. في الماضي كان من السهل توجيه أصابع الاتهام لشخص مستبد هو صدام حسين واقتلاعه من السلطة، أو إلى أيديولوجيا الدولة البعثية واجتثاثها، ولكن ذلك غير متاح اليوم. يبدو النظام العراقي الحالي ضعيفاً ومنقسماً على نفسه، ولكنه قد يستطيع التعامل مع التحديات الشعبية بصورة أفضل حتى من أكثر الأنظمة تسلطاً ومركزية. إن قوة هذا النظام في ضعفه، وبالتالي فإن على جموع العراقيين أن تتجاوز غضبها المحض نحو عمل سياسي عقلاني يعرّف النظام القائم ويقترح بديلا عنه.

مشاركة :