رغم المسؤولية التاريخية التي تتحملها بريطانيا، من خلال وعد بلفور ودعمها المتواصل لدولة الاحتلال، ومأساة الشعب الفلسطيني وتشريده، إلاّ أنها مع ذلك وربما لذلك فإن الشعب البريطاني من أكثر الشعوب الغربية دعماً ومناصرة للقضية الفلسطينية، فمنذ سبعينات القرن الماضي تحركت بشكلٍ نشط معظم الاتحادات والنقابات البريطانية، خاصة ذات التوجهات اليسارية لمساندة الشعب الفلسطيني، مستفيدة من تجربتها في النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب اقريقيا، وقد بلغ هذا الاسناد الشعبي ذروته في السنوات الأخيرة عندما خرج أكثر من مئة ألف بريطاني ضد العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، الأمر الذي شكّل فيما بعد اسناداً ودعماً لفوز “جيرمي كوربين” رئيساً لحزب العمال البريطاني بعد ذلك بعامٍ واحد وهو المعروف بدعمه المطلق والمعلن لحقوق الشعب الفلسطيني معلناً أن حزبه سيعترف بفلسطين دولة مستقلة دائمة العضوية في الأمم المتحدة في حال وصوله إلى الحكم. الحراك الشعبي والنقابي البريطاني، لم يكتفي بالتظاهر الداعم للقضية الفلسطينية، بل إنه كان أكثر نشاطاً عبر وسائل الاعلام والندوات والورشات داعياً الدولة البريطانية إلى وقف تزويد اسرائيل بالأسلحة ومقاطعة الشركات والمصارف التي تستثمر في تجارة السلاح مع اسرائيل، ومنع التبادل الثقافي بين الجماعات البريطانية والاسرائيلية، خاصة تلك التي تتخذ من الضفة الغربية مركزاً وفروعاُ لها. ما دفعنا إلى هذه المقدمة، تلك الحملة الاسرائيلية الشعواء ضد حزب العمال البريطاني ورئيسه “جيرمي كوربين”، على وجه الخصوص، الأمر الذي أحدث اختلالات بالغة الأهمية على الصعيدين التنظيمي والسياسي للحزب، كنتيجة لحرب دعائية اعلامية سياسية منظمة، وعادت إلى “الأرشيف” لتوجيه اتهامات بمعاداة السامية من قبل الحزب ورئيسه خاصة بعد تصريحات مؤيدة لفلسطين أدلى بها “كوربين” سواءً لإدانته المعلنة لقرار الرئيس الأمريكي ترامب باعتبار القدس عاصمة للدولة العبرية ثم ادانته لقراره فيما يتعلق بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين “أونروا” وتصريحاته المستمرة التي تدين الاحتلال الإسرائيلي سواءً بما يجري على حدود قطاع غزة أو تلك المتعلقة بالتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. استندت الحرب الإعلامية والسياسية الإسرائيلية ضد “كوربين” إلى وثائق وصور جمعته مع قادة فلسطينيين أو وضعه زهوراً على مقابر شهداء فلسطينيين إضافة بطبيعة الحال إلى اتهامه بدعم “الإرهاب الفلسطيني” ومعاداة السامية، خاصة عندما لفقت وسائل الإعلام الإسرائيلية مقارنة قام بها كوربين بين إسرائيل وألمانيا النازية، مع أن الأمر يعود إلى تقرير خاطئ نشرته صحيفة التايمز البريطانية حول اجتماع مناهضة العنصرية، بينما الشخص الذي عقد هذه المقارنة هو يهودي من الناجين من “المحرقة” كان حزب العمل على مقربة من الفوز بنتائج الانتخابات العامة البريطانية الأخيرة، الأمر الذي أثار العديد من المخاوف لدى الاحتلال الإسرائيلي، موقع “الانتفاضة الالكترونية” نشر في ذلك الوقت تقريراً أعدته اثنتان من أبرز مجموعات الضغط التابعة لإسرائيل، وهما رابطة مكافحة التشويه ومعهد ريوت للدراسات في تل أبيب، بالتعاون مع خبراء من الحكومة الإسرائيلية خاصة وزارة الشؤون الإستراتيجية، يشير هذا التقرير إلى ضرورة مواجهة تصاعد حدة الأنشطة المعادية لإسرائيل، سواء حزب العمال البريطاني أو منظمة ” BDS”، الصحفي الاستقصائي الذي كشف عن التقرير المشار إليه، “أساو وينسنتلي” قال أن مهاجمة كوربين تعتبر ضرورة لإسقاطه أولاً وجعله عبرة لغيره في المستقبل وقد أثمرت جهود هذه الحملة المنظمة اختراقاً اساسياً في موقف حزب العمال الذي كان يفصل بين معاداة السامية وانتقاد السلوكيات الأمنية والسياسية لإسرائيل، هذا الموقف الذي كان يرفض التعامل مع ما يسمى “قواعد السلوك الدولية للهولوكوست” هذه القواعد التي كانت تعتبر أن أي انتقاد لإسرائيل هو أحد أشكال معاداة الشامية، ففي الخامس من أيلول/ سبتمبر الجاري اتخذت اللجنة التنفيذية لحزب العمال قراراً بتبني قواعد السلوك الدولية للهولوكوست في عملية مراجعة لمواقفه السابقة، وذلك استجابة كما قيل لتبرير ذلك لمخاوف الجالية اليهودية من ناحية وتوحيد الحزب لاجل الفوز بالانتخابات العامة القادمة وإسقاط حزب المحافظين من ناحية أخرى. مسألة “توحيد” حزب العمال هنا لها دلالة هامة وخطيرة، فقد ظهرت إلى السطح مؤخراً اشارات مقلقة حول انبثاق حزب انفصالي وسطي على غرار الحزب الديمقراطي الاجتماعي منشقاً عن حزب العمال انطلاقاً من السياسة الخارجية للحزب خاصة فيما يتعلق بالملف الفلسطيني الاسرائيلي، وقد اعتبر بعض قادة الحزب من هؤلاء أن “كوربين” يساري أحمر فوق اللزوم دون أية خلافات على صعيد الموقف من القضايا الداخلية هذه السياسة حسب هذا البعض قد تودي بالفرصة الذهبية أمام الحزب للوصول مجدداً للسلطة على ضوء الأخطاء الكبيرة التي أقدمت عليها حكومة المحافظين برئاسة تيريزا ماي، خاصة فيما يتعلق بالبريكست من هنا تم اعتبار تبني قواعد السلوك الدولية للهولوكوست من قبل الحزب وبموافقة من كوربين إزالة لمبررات الانشقاق وفرصة أكبر لتولي السلطة بنتائج الانتخابات العامة القادمة.
مشاركة :