أحداث العام 2014: إحراق كتب ورحيل رواد الشعر مع غياب أنسي الحاج وسعيد عقل

  • 12/29/2014
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة من يواصلون السفر رقصا وتمثيلا ورسما وكتابة وإخراجا. لعل المستوى المنشود فقد بعض بريقه، لربما أن برامج المهرجانات ومعارض الكتب، كان يمكن لها أن ترتقي وتنمو بشكل أفضل لو أتيحت الظروف المناسبة. على الأرجح، أن أفكارا أكثر جنوحا وجنونا، كان يمكن أن تنبجس، لو أن الاستقرار كان حليفها، لكن القبول بالممكن أفضل من التراجع والتقاعس، بينما النيران تشتعل وتزنر الوطن الصغير. مع إطلالة السنة، وتحديدا في اليوم الثاني منها، أحرق غوغائيون في طرابلس، مكتبتها الأشهر بحجة رمي صاحبها الأب إبراهيم سروج، باتهامات دينية لا تمت لمساره السمح بصلة. أجهزت النيران على ما يقارب 85 ألف كتاب خنقت طرابلس بروائحها النفاذة. كانت الكارثة مناسبة لاستنهاض شباب المدينة، وإدانة الجهل والتعصب وشد العزائم، لاستعادة المكتبة حياتها وصاحبها إرادة الاستمرار، والتأكيد على أن عاصمة الشمال لكل طوائفها وأطيافها. كانت انتفاضة المدينة ضد المخربين عارمة. لم يكن عاما سهلا، لم يسبق لسنة أن جرفت بسيول أيامها هذا الكم من المبدعين الذين صنعوا محطات تؤرخ للشعر وتصنع مساره وتياراته. في البدء رحل جوزيف حرب، في التاسع من فبراير (شباط). توارى صاحب «أسوارة العروس» و«خليك بالبيت» و«زعلي طوّل أنا واياك»، ليلحق به سريعا، وبعد ما يناهز الأسبوع فقط أنسي الحاج، بدا المشهد الشعري قاتما ومرتبكا. كثيرون لم يشعروا بأهمية أنسي الحاج في حياته، كما أدركوا أنهم سيفتقدونه كثيرا بعد موته. الرجل بدا وكأنه لم يشِخ يوما، لم يكبر، بقي شابا في كلماته ومقالاته التي لم تنقطع، وفي صوره المائلة دائما إلى شيء من التأمل الرومانسي الحالم. أنسي الحاج ليس شاعرا فقط، إنه رائد صنع مدرسته وتلامذته ومريديه. دواوين أنسي الحاج لكل منها مذاقه وأثره، وقصته، وقصيدة النثر مدينة لجرأته وجنوحه بولادتها الرسمية. وإذا كان العام قد افتتح بسقوط كبيرين في الشعر، فقد اختتم برحيل آخرين لا يقلان أهمية، وهما الشاعران جورج جرداق الذي كتب رائعة «هذه ليلتي» التي غنتها أم كلثوم، وسعيد عقل الذي بقي جدليا في مماته كما كان في حياته. وبرحيل هؤلاء الشعراء الأربعة دفعة واحدة، انطوت صفحة من تاريخ الشعر اللبناني الحديث، وغاب رموز مرحلة تستحق إعادة قراءة عميقة في تعددية مناهجها الشعرية، وأمزجة روادها. يزداد الوجع حين تقلّب ما فاضت به أرفّ «معرض بيروت العربي للكتاب» من مؤلفات جديدة، في غالبيتها تفتقر للعمق والتأني. كتب كثيرة بيعت كما لو أنها مؤلفات العصر، في ما لن يبقى من زبدها ما يستذكره أحد. يضيع الصالح القليل الذي يستحق القراءة، في عزاء الطالح الكثير الذي يروج له ويسوق. من دون جهود شخصية جبارة، لن تتمكن من تنقية الغث من السمين. ومعرض الكتاب نفسه شاخت صيغته التقليدية، لكنه لا يرى ضرورة لإعادة النظر في خططه التنظيمية التي أكل عليها الدهر وشرب، ولا يشعر بالغيرة من معرض الكتاب الفرنسي، الحريص على ارتداء لبوس أكثر جاذبية والحجة دائما، أن الظروف صعبة ولا تسمح بأفضل من الاستمرار. هذا المنطق هو تماما ما يجعل منظمي بعض المهرجانات يتمردون، ويقررون كما هو حال «مهرجانات بيبلوس الدولية»، أن «قسوة المرحلة تحتاج جهودا مضاعفة، للوقوف في وجه العاصفة». وإذا كان البعض يخفض سقف طموحاته بانتظار مرور تسونامي الثورات، فإن ثمة فئة، تفعل العكس. يسأل عمر راجح الذي احتفل بمرور عشر سنوات على انطلاقة «مهرجان بيروت للرقص المعاصر» بعد أن حصد نجاحًا كبيرًا، جمهورًا غفيرًا: «لقد كانت سنوات عجاف، ماذا لو استسلمنا وانتظرنا عقدًا، ألم تكن أعمارنا قد ذهبت هدرًا؟» هذه السنة قام راجح بالتعاون مع شريف صحناوي، بإطلاق مهرجان جديد باسم «ارتجال للموسيقى التجريبية» جمع بين الرقص والعزف الحي الارتجالي، واستقبل فرقًا وموسيقيين من بلدان مختلفة. المهرجانات في لبنان تتجاوز الصيف إلى كل أيام السنة. بات لكل منها اختصاصه، ومواعيد يترقبها الجمهور، «مهرجان ربيع بيروت» الذي ساهم باستقطاب عروض فنية تجريبية بديعة، و«مهرجان الحكواتيين والمونودراما» على «مسرح مونو» الذي تحول إلى تقليد وله متابعوه، و«مهرجان البستان» المعني بشكل أساسي بالموسيقى الكلاسيكية، و«مهرجان بيروت السينمائي» و«مهرجان موسيقى الجاز» وغيرها. رغم كل الانتقادات الموجهة إلى «مهرجانات بعلبك» التي واجهت الظروف الأقسى، بسبب وجود القلعة الرومانية التاريخية التي ارتبطت بها على مبعدة كيلومترات من الحدود السورية الملتهبة، فإن الافتتاح في القلعة بـ«عاصي والحلم» كان نوعًا من التحدي والإصرار الكبيرين، لاقاهما تشجيع شعبي، وزحف للجمهور الغفير، غير أن الحفلات سرعان ما عادت لتنتقل إلى بيروت بعد أن صار البقاء في بعلبك، تحت رحمة التهديدات الإرهابية مستحيلاً. «بيروت آرت فير» أو «معرض بيروت للفن» عرف كيف يستقطب 20 ألف زائر في 4 أيام، رغم أنه كما غيره من النشاطات التي يتم تنظيمها، باتت تفتقد للقفزات الكبرى، والتوثبات النوعية. لعل المرحلة يمكن أن يطلق عليها عنوان «إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون». بيروت مزدحمة بالإصدارات والحفلات الغنائية والمسرحيات التي يسجل لبعضها الاستمرار الاستثنائي في العرض، كما «الطريق الجديدة» ليحيى جابر، و«من الآخر» لعايده صبرا، فترات لم يسبق لمسرحيات أن أقامت على شاكلتها، طوال أشهر، على خشبات المسارح، وجمهور يحجز أماكنه مسبقًا. لعل عدد المسرحيات انخفض، لكن الإقبال ليس بالقليل. بيروت مزدحمة بمواعيدها، وتجاوب من الناس مع عروض فنون التصميم والتشكيل وإقبال على صالات السينما التي خرجت أفلامها اللبنانية من ثيمة «الحرب» التي استغرقت أكثر من عقدين إلى قضايا «النسوان» و«الحب» والتفاصيل اليومية الصغيرة. لبنان الذي ودع شحرورته «صباح» مع الدموع بالدبكة والميجانا، يقاوم ثقافيًا، يقاوم بتعدديته في وجه رياح التطرف والعنف، وبروحه المرحة وظرفه يناكف تيارات الظلام والسوداوية. المهمة ليست يسيرة، الكبوات كثيرة، والتحليق المجنح مشدود الوثاق إلى عوائق متزايدة، لكن المناضلين في فن الكوميكس، والتجهيز والكاريكاتير، كما الإخراج والإعلان والتطبيقات التكنولوجية، والابتكارات التواصلية، والأزياء، يشكلون نخبًا جديدة، ترثا في غفلة من الجميع: الشعراء، والروائيين، والرسامين التقليديين. ثمة جديد يولد في خضم عنف الثورات، لا تزال ملامحه غامضة وهلامية.

مشاركة :