كي تكون كاتبًا.. عليك أن تكون عاشقًا أولًا! واسيني الأعرج كي تكون كاتبًا.. عليك أن تكون عاشقًا أولًا! ماذا يعني أن تكون كاتبًا في الزمن الذي نعيشه؟ معناه أن تملك قدرًا من الحب تتقاسمه مع الغير.. أخيك، جارك، صديقك، المؤتلف، المختلف، في الداخل، في الخارج.. الإنسانية في النهاية مساحة واحدة يتبارى فيها العقل ليس لإلهام الحروب ولكن من أجل انتاج الجمال وتقديس الحياة، جمال ليس متاحًا للجميع، لهذا ليس بمقدور كل الناس أن يكونوا كتابًا.. يمكن أن نواجَه بالمثال المضاد، الكاتب الفرنسي سيلين الذي كان يكره اليهود لدرجة أن كتب كتابين وضعاه في صف المعادين للسامية في فرنسا.. لكنه اختار حياة متواضعة رفعت كتاباته إلى الأعالي لتجعل منه أهم كاتب فرنسي وقتها.. نعم حدث هذا في كتابين هجائيين لا يمتان بصلة للرواية.. كل رواياته كانت إيذانًا بميلاد الإنسان الجديد المضاد للحروب، والمرحب بالعالم الجديد، والإنسان الكبير في صفاته وقوة إبداعه.. يمكننا أن نعطى مثالا أكثر قوة بإميل زولا.. دافع هذا الأخير باستماتة عن الحق في الحياة والعدالة الاجتماعية.. وضع حياته وشهرته في الميزان عندما لم يختر المؤسسة، لكنه اختار الحلقة الأضعف أي المجتمع والدفاع عن الحق.. الحق لا يساوَم فيه مطلقًا، حتى ولو تسبب للكاتب في السجون والمطاردات.. المبدع الحقّ لا يمكنه في النهاية إلا إن يكون مع العدالة.. الحق هو تعبير أسمى عن إنسانية الإنسان. دافع زولا عن دريفوس، الضابط الفرنسي اليهودي، المتهم ظلمًا بالتخابر مع العدو الألماني في سبعينيات القرن التاسع عشر.. فقد شعر إميل زولا بأن الجيش الفرنسي المهزوم كان يبحث عن مطية يخفي من خلالها هزيمته العسكرية، مع ألمانيا، فوجد في الضابط اليهودي دريفوس أجمل فرصة للتعبير.. في مقالته الخالدة: إني أتهم، وضع زولا كل شيء في الميزان بما في ذلك حياته مقابل الحقيقة، مما اضطره إلى الهرب إلى لندن قبل أن يتجلى الحق ويعود إلى أرضه. ما الذي جعل زولا يسلك الطريق الصعب، طريق الحب والحق؟ الحب ليس قيمة مثالية متعالية ولكنه حالة تعاش يوميًا من التفاصيل الصغيرة التي تبدأ بمساعدة أعمى يريد أن يقطع الطريق.. وتنتهي بإنقاذ طفل محجوز من وراء النار أو الشهادة ضد كبير أو مؤسسة تخيف بسلطانها وطغيانها الناس. أتذكر الشاب الإفريقي المالي مامادو غساما الذي رأى طفلًا معلقًا في الفراغ على ارتفاع قرابة العشرين مترًا، فصعد مثل الرجل العنكبوت، سبايدرمان الحقيقي قاطعًا في أقل من دقيقة المسافة الفاصلة بين الأرض والطابق الرابع، وأنقذ الطفل في ثوانٍ قبل حدوث الكارثة.. عندما سئل كيف فعلت ذلك وعرضت حياتك للخطر وأنت دون أوراق إقامة؟ أجاب مامادو ببساطة.. لم أفكر في هذا.. كان في رأسي شيء واحد.. كيف أنقذ الطفل.. لم أفكر أن جهدًا فرديًّا سيقود إلى تعاطف الملايين معي، وأن الرئيس ماكرون سيستقبلني ويمنحني إقامة وأوظف في الحماية المدنية.. هذا بالضبط التعبير الأدق عن الكاتب.. هو المتسلق في الفراغ المخيف من أجل جهد إنساني منتج وإيجابي.. هو الذي يخوض تجربة الحب وغمار البحث عن الحق، في الظروف التي تبدو شبه مستحيلة؛ لهذا أتفاجأ أحيانًا كيف لكاتب أن يجمع بين الحب ومناصرة الحرب؟ صعب حتى ولو كانت بلادك هي التي تخوضها. الحرب أحقاد وموت ودم، حتى ولو كانت من منظور معين عادلة.. الكُتاب الذين لا يناصرون الموت أقلية في ظل الحروب الطاحنة.. خلقت النازية جيشًا من الكتاب والفنانين الذي سخروا أقلامهم لصالح الموت.. أقلية صمتت وأخرى اختارت المنفى.. الصامتون والمنفيون كثيرًا ما اعتبروا خونة من طرف سدنة النازية والجريمة؛ لهذا تصبح الكتابة مقاومة ورهانًا ضد اليقينيات الميتة. أن تكتب معناه أن تتحمل كل التهم الافتراضية، نحتاج اليوم في العالم العربي بالخصوص إلى مبدعين وكتاب ينظرون إلى الحروب البينية أو العالمية، مهما كانت المبررات المقدمة، كأفعال مضادة لجوهر الكتابة وللإنسان. أدرك سلفًا أن موقفًا مثل هذا ليس سهلًا، لكن من قال: إن اختيار الكتابة هو اختيار الطريق الأسهل في الحياة؟ لقد خسر فكتور جارا صوته وأصابعه التي كان يعزف بها من أجل الحق.. تحمل الحلاج قسوة الصلب والحرق والقتل مقابل أن يظل وفيًّا لخياراته الثقافية.. كاد نجيب محفوظ أن يفقد حياته بعدما اعتدى عليه أحد المتطرفين بالسكين؛ لأنه انتصر للحب والحياة.. الكتابة مهمة جميلة، لكنها شاقة.
مشاركة :