وأنا أتأمل لوحات الفنان التشكيلي كريم تابت في محاولة لقراءة عاشقة أكثر منها متخصصة، مبحرة في غياهبها؛ أشكالها وألوانها، ظاهر اللوحة المتجلي للعابر والباطن المستجلي للمتأمل الغائر السابح غور ومكنون اللوحات الدفين الذي يستدعي أكثر من تأمل وأكثر منه تجرد من كل مقروء سابق أو تحليل مهما قيل إنه ثاقب، حتى لا أسقط في شرك اجترار فتقيد ملكة الحدس عندي فلا أرى إلا من خلال إطار مسبق، فتكون رحلتي في عالم اللون والجسد والورد بلا طائل.. لذلك؛ كنت حيرى بين استعجال قراءة خاصة لعلي بها أتفرد بين الأقران والتريث مخافة أن تكون محاولتي مجرد انسلاخ... وأنا بين ذهاب وإياب من لوحة إلى أخرى وعبور بين خلجات الألوان ومحاولة الغوص في الأجساد التي ملأت فضاء اللوحات بلا استثناء، استوقفتني مقولة لريجيس دوبري: «...الصورة علامة مميزة تكمن في أنها تمنح نفسها للتأويل وتدعو إلى ضرورته؛ غير أنها لا يمكن أن تقرأ...»، وأنا استحضرها وجدتني في مفترق طرق من نوع آخر، فإن كنت بالوهلة الأولى أحاول أن أجد مسافة بين مقروء مسبق وما يمكنه أن يقرأ، ملزمة الآن أن أجد فاصلاً بين استحالة القراءة حتى لا تكون شغلاً شاغلاً بلا طائل وإمكانية التأويل وكيفية التأويل متى تأتي التأويل.. واصلت مسيرة التأمل لصورة باتت مشتركة لا يختلف فيها اثنان من النقاد أو القراء العشاق منهم والمتخصصون، ألا وهي الكتل الجسدية والألوان الزاهية المشعة وأزهار ومزهرية. هذه الصورة المميزة منحت نفسها للتأويل حسب ريجيس دوبريه ودعتني إليه، فما هذه التأويلات الممكنة والمتاحة؟ وقبل الخوض في رحلة التأويل - ولو أني أتردد بين إتمام هذا السفر العاشق بين الربوع وبين وقفة تستدعيها ضرورة فنية في محاولة لإلقاء الضوء على الإطار العام لصاحب اللوحات أم أستثني ذلك مخافة أن يقع القارئ في الإسقاط - نشير من باب الأدب لا من باب العبث إلى صاحب اللوحات الشاعر والفنان التشكيلي كريم ثابت من مواليد 1980م بالدار البيضاء الكبرى، القادم إلينا من فوهة العجز والإعاقة؛ فقد لازمه شلل الأطفال من سن الثالثة، فشل حركته وألزمه مقعداً متحركاً... لكنه ما شل طاقاته الإبداعية ولا ملكة كسب العلم والتحصيل، فالفنان التشكيلي كريم ثابت جمع بين الحسنيين: العلم والتحصيل؛ والشعر والتشكيل، حصل على الإجازة في اللسانيات وماستر كذلك، وهو على مشارف إتمام الدكتوراه... لم يمنعه تحصيل العلم من تطوير موهبته باعتماده على الفطرة والتمرس فاكتساب مهارة الريشة والألوان دونما ولوج لمعهد متخصص، ليمتاز بين أقرانه ويتفوق على كثير من الدارسين للفنون الجميلة، فكأنما حدسه دليله إلى عالم اللوحة والألوان. شارك منذ سنة 2000م في العديد من المعارض الفردية والجماعية الوطنية والعالمية، آخر مشاركة كانت بأكبر تظاهرة فنية عالمية ويتعلق الأمر ب: «سمبوزيوم سانغاي» للنحت والرسم الدولي بكيبيك الكندية وتجلت مشاركته بأربع لوحات، فهو بحق مثابر رقى وارتقى. نعود للقراءة ولذات الصورة التي مهما اختلفت تلويناتها وتقاطعاتها فقد حاصرتني تأويلات رموزها الثلاث: الجسد والألوان فأزهار ومزهرية. الجسد لعله؛ أي كريم ثابت ليس عابثاً بالألوان فهو ذو شخصية متزنة ومتطلعة، فلا محالة من أنه وبإمكانات شخصية روض موهبته وطوع الريشة والألوان، ولا شك أنه اطلع اطلاعاً واسعاً على مدارس الرواد، لذلك أرى من الحيف إسدال صبغة العفوية على فنه ووصفه ب: «art NAÏF» على غرار الفنانة التشكيلية المغربية «الشعيبية طلال» لأنه ليس عفوياً بل نابعاً عن ملكة ووعي وإدراك. ولعلي أراه متأثراً ب: «رينوار» الذي تمركزت جل لوحاته حول الجسد الأنثوي، قد يقول كثيرون إن هذا ضرب من الخيال ولا يمت بصلة للتحليل الواقعي، على اعتبار أن «رينوار» اعتمد العري لكشف إبداعاته التي تعتمد أسلوب المكاشفة في حين عمد تابت للعكس من ذلك. فنقول إن «رينوار» ينتمي لمجتمع يستبيح العري والمكاشفة بل يقبله ويتقبله كفن رفيع. أما كريم تابت فمن بيئة مخالفة جداً رغم مظاهر الحداثة والتحرر والانبلاج كما هو معمول به في مجال الصورة المرئية حيث يتم تجسيد مشاهد عري خليعة تحت ذريعة الضرورة الفنية؛ لكنه غير متقبل إلا من فئات نشاز تدعي التحرر، لتبقى للجسد حرمة لا يستبيحها السواد الأعظم من الناس وكريم ثابت واحد منهم. حضرت الأنثى مليئة بالحياة والجاذبية رمزاً لكل القيم النبيلة والجميلة من حب وعطاء وحياة، زاد من ألق الحضور الجسدي الأنثوي الألوان الزاهية المشعة التي سنعمد لتحليلها في نقطة لاحقة. كما حضرت في جسد جميل كامل الأوصاف والملامح دون الاكتمال؛ فلم تنزلق نظرته إلى تحت، فكأنما يتبع خطى «إميل زولا» و«بلزاك» و«الكسندر دوما» منظري الجمال والمعتنين بالجسد في نظرة علوية متعالية عن الرغبة، بل تنظر للجسد كقيمة عليا وكرمز... وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال طرح نفسه وبحدة. فهل الفنان التشكيلي كريم ثابت وظف جسد الأنثى كتيمة في كل لوحاته قيمة عليا ونظر إليها نظرة فوقية عالية متعالية عن كل شائبة تشوب رمزيتها حد القداسة، مرده إلى قناعة وإلى إتباع واع للرواد؟! أم هي نظرة لا واعية مضمرة غير مستحضرة؛ نظرة يشوبها القصور والعجز عن إكمال السير ومواصلة المسير، بأن تتجاوز نظرته العلوية ومن فوق إلى نظرة من تحت. فالمتأمل للوحات الفنان التشكيلي كريم تابت يجد أنه عمد لأسلوب التفصيل والتجسيد الكامل للجزء العلوي من رأس ورقبة وأثداء ولو من تحت حجاب. ولم يعط الجسد ذاته نفس التفاصيل فجعلها في قوالب فنية تضمها دون أن تفصلها. ولنا هنا التأويل إن جاز التأويل أن هذه النظرة مردها تعبير صارخ عن وضع معاش، فنصفه كتلة جسدية خالية من الحركة ومن الحياة، حسبه؛ لا تستحق التفصيل والتدقيق في جزئياتها. وبالمقابل غاص في أدق التفاصيل والجزئيات العلوية حتى بدت حية وتنثر الحياة. ثمة ملاحظة أخرى تستدعي الاهتمام هو طول الرقبة بلا استثناء في كل الكتل الجسدية التي ملأت فضاءات لوحاته ولعلها تفيد على الأقل في ثقافتنا الشعبية الشموخ، وهو الشامخ أمام إعاقته جعل من طول الرقبة عنواناً وترجمة جوانية لهذه القدرة الخفية حيناً والظاهرة حيناً آخر. إلا أن القصور اللاواعي جسده بشكل واعٍ وفي قالب فني رائع لدرجة قد يغفل معه العارج على لوحاته هذا الانقسام في التعبير عن الجسد بين نظرتين مختلفتين، هذا التجسيد الواعي استمده من أدبيات النحت في الثقافة الشرقية حيث كانت آلهة الحب والجمال الايروس أو عشتار تصور منحوتة محتفظة بلباسها الشفيف والطويل الذي يغطي جزءاً مهماً من جسدها. فصورها كريم تابت حالمة حاملة للأمل؛ وفي يديها وروداً أو بالونات أو ما شابه. الألوان حضرت الألوان الزاهية المشعة فطغى اللون الأحمر والأصفر والبرتقالي، وقبل الغوص في عالم اللون وفي دلالاته لا بد من الإشارة إلى أن العقل الإنساني ارتبط بالرموز والألوان منذ بدء الخليقة، وعبر الإنسان من خلالها عن خوفه وحبه وتعظيمه لبعض الموجودات... فماذا عن الألوان ودلالاتها النفسية ومن تم رمزيتها في لوحات كريم تابت؟ إذا كان اللون الأحمر من الناحية الفنية لا يعد لوناً واضحاً إلا أنه يمتلك ميزة الظهور والبروز؛ وهو من أقدم الألوان التي عرفها الإنسان في الطبيعة ويعبر عن الدفء والحب والأحاسيس القوية، كما أنه من الألوان الحامية المستمدة وهجها من حرارة الشمس، وقد يرتبط في كثير من الأحيان بالمأساة والقوة والعنف والإثارة كذلك... وهو هنا تعبير صادق بريشة الفنان عن المعاناة والقهر جراء إعاقة لمت به مذ صباه وأقعدته ولازمته كرسياً متحركاً فغابت الحركة الحرة والتنقل في الدروبات والأزقة وملاحقة الكرة أو صحن دوار... ولكنه، اللون الأحمر إشارة مشعة إشعاع حياة ما عاقها دبيب حركة بل حرك الحواس والأبعاد... فهو يجذب عبر ريشة وصبغ متوهج الانتباه فيقول ها أنذا الذي... كيف لا واللون الأحمر صاحب أطول موجة ضوئية من ألوان الطيف تجعل العامد إليه يرسل ذبذبات تشع فيصل مداها إلى أبعد نقطة. هذا عن اللون الأحمر؛ والأصفر كذلك له دلالته في علم النفس، فهو يعبر عن التفاؤل والفرح والإبداع كما يعبر عن الإحباط والغضب والقلق، كما يعد من أقوى الألوان النفسية ولعلنا من خلاله نأول فنقول أن الأصفر ترجمة لنفسية الفنان الذي يقصد محرابه متأرجحاً ذات اليمين وذات الشمال بين إحباط وتفاؤل وفرح وغضب وألم وأمل. أما البرتقالي فهو من حيث تركيبته فهو مزيج من الأحمر والأصفر ومزيج من الدلالات ولعله بتقدير شخصي كان بمثابة المعدل (بالكسرة) أو الميزان «Termosta» التي تعدل مزاج الفنان فينعكس تباعاً على تناسق الألوان وتهذيب وهج الأحمر وشعة الأصفر، لا سيما أنه حسب علم النفس من الألوان المحفزة. الورود: الورد هو نور (السكون على الواو) كل شجرة وكل نبتة وواحدته وردة وهي على حد قول أبي حنيفة: الورد ببلاد الغرب كثير؛ ريفية وبرية وجبلية، والورد لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شيء. وقال عز وجل في كتابه الكريم: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) كناية عن اللون الأحمر. وعلى اختلاف الورد وأطيافه فلعله خليط من الأوركيدة والليلك والأكاسيا والسوسن والتوليب تعبر كلها عن الأمل والحلم الذي يحاول الفنان أن ينثره من خلال الأيادي الممدودة التي خطتها ريشة الفنان. وهنا نلحظ ثمة ملاحظة أن كريم ثابت استعمل ألواناً ثلاثة طاغية بجل أعماله تتدرج من أحمر لأصغر ومزيجاً بينهما جسده خليط منسجم من اللونين ليتحد ويتوحد في قالب برتقالي، وهي الألوان ذاتها للورد الأحمر كالدهان (لون أحمر يضرب إلى صفرة) فنجدنا أمام متلازمة بين اللون كلون في حد ذاته وبين الورد وألوانه وكما تتدرج ألوان الورد نور كل زهرة ونبتة من أحمر إلى أصفر عبر التدرج، فهي الألوان ذاتها تتدرج باللوحة من أحمر إلى أصفر فبرتقالي يعطي التوازن بين وهج الأحمر وشعة الأصفر... ولعله اختيار واعٍ من الفنان التشكيلي العصامي كريم ثابت. وفرضاً أنه ليس كذلك وكان اختياراً عفوياً فهو نابع من حدوس قوية صافية صادقة مقبلة على الحياة في مصالحة ودونما شنآن. أما المزهرية التي لا تكاد تخلو كل اللوحات منها؛ فهي الجعبة والجبة ونبع كل حدس أو إحساس. لقد حاولت جاهدة في هذه القراءة العاشقة غير المتخصصة أن أطوعها قدر الإمكان لأن تلامس التخصص وتحاذيه. محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة المفتاحية حسب نظرية بانوفسكي؛ ألا وهي: ماذا تعني اللوحات؟ وما دلالاتها ورموزها؟ وإعطاء تأويلات شافية دون أن نقدم قراءة لأنها لا تقرأ على حد قول «ريجيس دوبري وكتحصيل حاصل فالفنان التشكيلي العصامي المغربي كريم ثابت أثبت كفاءته بشهادة المختصين، فهو الحاصل على جوائز وشواهد على مستوى الوطن أو العالم العربي.
مشاركة :