زارتني الصحافية العراقية المهاجرة مارغريت خاميس، بمقهى فوانيس، حيث أكون في صباحات عمان، فهي تقيم في السويد وتزور الأردن بين وقت وآخر، لأن ابنتها الكبرى تقيم في العاصمة الأردنية. بدأت معرفتي بها، حين عملنا معا لعدد من الأعوام في صحيفة الثورة، العراقية، وعرفت فيها الجدية والمثابرة والالتزام. وإذ غادرنا بغداد وتفرقت بنا السبل، فكانت وفية حقا، إذ كلما حلت بعمان، هاتفتني وحرصت على أن نلتقي، ويكون اللقاء في المقهى الذي لا أغيب عن صباحاته، إلا حين أكون على سفر، وكلما التقينا، تكون بغداد محور لقائنا الذي لا يغيب عنا، وقد تحدثني عما تخطط له من مشاريع للكتابة، وما مرَّ بها من أحداث، منذ أن التقينا آخر مرة، فأكتشف أن إقامتها الطويلة في السويد لم تبعدها عن بغداد وأيامها، إنْ لم تكن قد زادتها اقتراباً منها. في لقائنا الأخير نبهتني إلى حالة لم أكن قد انتبهت إليها، إذْ بادرتني بالقول: تغيَّر الناس هو السؤال أم تغيَّر الزمن؟ وهذا هو شطر من قصيدة قديمة، كتبتها في بدايات تجربتي الشعرية، فضحكتُ ولم أُجب عن تساؤلها، فواصلت حديثها بالقول: كنّا مجموعة من الشباب في أعمار متقاربة، وكنا طلبة في كلية الآداب بجامعة بغداد، في سبعينات القرن الماضي، جئنا من مختلف المدن العراقية وننتسب إلى جميع مكوناته الاجتماعية، ونحن في ذرى شبابنا وحماستنا وتطلعاتنا إلى الحياة، ولم يكن يحضر لقاءاتنا سوى تفتحنا الحياتي والمعرفي، وما يجمع بيننا صدق المواطنة والمحبة والصداقة. وحين نلتقي كنا نتحدث عما قرأنا من روايات جديدة وما سمعنا من موسيقى وما اطلعنا عليه من مقالات وما تعلمنا من معارف جديدة في دروسنا الجامعية أو بجهدنا الذاتي، فإن ظهرت رواية جديدة محلية أو عربية أو أجنبية مترجمة، تسابقنا إلى الحصول عليها وقراءتها والحديث عنها وعن كاتبها، ويكون من سبق إليها وإلى قراءتها، في حالة شعور بالرضا عن النفس، فنحاول أنْ نحقق ما حقق من شعور بالرضا عن النفس، وإذا عرضت مسرحية جديدة أو فيلم جديد تسابقنا إلى مشاهدتهما ومن ثم الحديث عنهما ومناقشة ما جاء فيهما. كان بعضنا يحفظ الشعر وله محاولات في كتابته، وبعض آخر يكتب القصة القصيرة أو الخاطرة أو المقالة، ويبحث عن منابر لنشرها، وفينا من استطاع نشر ما يكتب في الصحف، وحقق تميزه بيننا. ثم قالت: في السنوات الأخيرة، حاولنا أن نلتقي عبر وسائل الاتصالات الحديثة وإذ واصلنا اتصالاتنا، اكتشفت أن كثيرين منا يقيمون خارج الوطن، وأنا منهم، لكن ما أوجعني حقاً، أن الصديقة التي كانت تتحدث عن آخر رواية قرأتها لغارثيا ماركيز تفاجئني اليوم بأنها تتحدث عن دعاء الصباح ودعاء المساء ودعاء الرزق وما إلى ذلك من أنماط الدعاء، وأن الزميل الذي كان يملأ لقاءاتنا ضجيجا، بما يعرف عن السينما الجديدة، صار يكتب إلي، فأكتشف في كتاباته توجها طائفيا واضحا. قلت لها: كلنا يشهد هذه المتغيرات التي تشير إلى تراجع اجتماعي وثقافي في آن، وإذ أقدر ملاحظتك، رغم أن ميدانها محدود في عدد من الأشخاص، هم زملاؤك أيام كنت في الجامعة، لكنني وكما هو موقفي دائما، لا أحبذ التعميم، من دون أن أتجاهل ما هو خاص. وأظن أننا لا نختلف كثيرا حين نقول، إن المرحلة الراهنة تشهد الكثير من المتغيرات السلبية، على صعيد الزمن، وحين يتغير الزمن، من الطبيعي أن يتغير الناس، فلا تقنطي، لأن المتغيرات مذ كان الزمن ومذ كان الناس، لم تتوقف ولن تتوقف.
مشاركة :