بدأت ضغوط الأسواق الناشئة في التصاعد منذ عام 2013 على الأقل. وربما تناسى المستثمرون تأثير «نوبة الغضب» على ما يُعرف بالاقتصادات الخمسة الهشة - البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وتركيا، وجنوب أفريقيا - وهو المصطلح الذي صاغه مورغان ستانلي في توصيف ضعف هذه البلدان في مواجهة تدفقات رؤوس الأموال الكبيرة. وأسفر الاستيعاب النقدي وانخفاض العجز في الحساب الجاري والنمو، عن إخفاء التحديات وجذب المزيد من رؤوس الأموال إلى هذه الأسواق.وتتطلب الوصفة القياسية لأزمة السوق الناشئة وجود كم هائل من الديون وفقاعة الائتمان المحلي ذات الصلة، بما في ذلك سوء تخصيص وتوزيع رؤوس الأموال على المشروعات التذكارية غير المعنية بالاقتصاد أو المضاربات المالية. ومما يضاف إلى ذلك، القطاع المصرفي الضعيف، والعجز في الموازنات، والثغرات الكبيرة في الحسابات الجارية، والديون الكبيرة قصيرة الأجل بالعملات الأجنبية، والاحتياطيات غير الكافية من العملات الأجنبية، إلى جانب الهياكل الصناعية ضيقة النطاق، والاعتماد المتزايد على تصدير السلع والبضائع الأساسية، والضعف العام في مؤسسات الدول، والفساد المتفشي، إضافة إلى القيادة السياسية والاقتصادية السيئة.واستناداً إلى هذه المعايير، فإن عدد الأسواق الناشئة التي تواجه المخاطر يتجاوز بكثير حدود تركيا والأرجنتين. وعلى غرار عائلات تولستوي الشهيرة، فلدى كل دولة مصدر مختلف من مصادر البؤس والتعاسة.وازداد إجمالي الاقتراض في الأسواق الناشئة من 21 تريليون دولار (أو ما يساوي 145 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في عام 2007 إلى نحو 63 تريليون دولار (ما يساوي 210 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) في عام 2017، وقفز بالتالي حجم الاقتراض من جانب المؤسسات غير المالية والأسر تبعاً لذلك. ومنذ عام 2007، تضاعف حجم الدين بالعملات الأجنبية – بالدولار واليورو والين - لدى هذه البلدان وصولاً إلى حوالى 9 تريليونات دولار. ويتراوح حجم الدين الخارجي بالعملة الأجنبية لدى كل من الصين، والهند، وإندونيسيا، وماليزيا، وجنوب أفريقيا، والمكسيك، وتشيلي، والبرازيل، وبعض بلدان أوروبا الشرقية بين 20 و50 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.وإجمالاً، تحتاج الجهات المقترضة في الأسواق الناشئة إلى سداد الديون المستحقة أو إعادة تمويل الديون بما يقارب 1.5 تريليون دولار في عام 2019 ومرة أخرى في عام 2020، والعديد من هذه البلدان لا تحقق المكاسب الكافية لتغطية هذه الالتزامات أو الوفاء بهذه المستحقات.من جانبهما، تعاني كل من تركيا والأرجنتين من عجزين مزدوجين (تشكل ثغرات الموازنة والحسابات الجارية مجتمعة كنسب مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) بنسبة بلغت 8.7 و10.4 نقطة مئوية على التوالي، وهو الأمر الذي يتطلب التمويل العاجل. وتعاني باكستان بمفردها من عجز مزدوج بنسبة تتجاوز 10 نقاط مئوية. أما البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وأوكرانيا فقد بلغت أو هي أدنى من نسبة 5 نقاط مئوية على هذا الأساس. وفي الهند، إن أضفنا حكومات الولايات المحلية فإن الرقم الناتج سيكون مزدوجاً. وترتفع هذه المقاييس لدى كل من الصين، وماليزيا، والمكسيك، وكولومبيا، وتشيلي، وبولندا.ومع إلقاء نظرة عامة على تغطية الاحتياطي فسنجد أن كلاً من تركيا والأرجنتين سجلت نسبة 0.4 و0.6 نقطة مئوية على التوالي، ما يعني عجزاً عن تغطية الاحتياجات من دون الاقتراض الجديد. أما باكستان، والإكوادور، وبولندا، وإندونيسيا، وماليزيا، وجنوب أفريقيا فلديها احتياطي بأقل من نقطة مئوية واحدة. وهناك تشيلي، والمجر، وكولومبيا، والمكسيك، والهند التي تملك احتياطياً بأقل من نقطتين مئويتين. أيضاً هناك البرازيل، والصين، اللتان تأتيان في المرتبة التالية باحتياطي يقترب من 2.5 و3.1 نقطة مئوية على التوالي.حتى عندما تبدو التغطية الاحتياطية في وضع مناسب، فإن المزيد من الحذر له ما يبرره؛ إذ سرعان ما تتحول الديون طويلة الأجل إلى ديون قصيرة الأجل مع مرور الوقت أو أحداث التسارع الخارجة عن السيطرة. وقد لا تكون حيازات العملات الأجنبية متوافرة أو متاحة بكل سهولة. وجانب كبير من احتياطي الصين من العملات الأجنبية البالغ حتى الآن 3 تريليونات دولار مخصص لتغطية مشروعات البنية التحتية الخاصة بمبادرة الحزام والطريق الصينية الشهيرة. والمقدرة على تحويل سندات الخزانة الأميركية وغيرها من الأصول الأجنبية الأخرى إلى أموال نقدية هي مقدرة محدودة للغاية لأسباب تتعلق بالسيولة، وأسعار العملات، وتأثيرات العملة.ومن المعروف أن وضعيات احتياطي العملات الأجنبية يكتنفها الكثير من الغموض؛ ففي عام 1997، اتضح أن البنك المركزي في تايلند قد بالغ كثيراً في حصر حيازات العملات الأجنبية المتوافرة فعلياً لديه.وتواجه كل من الصين والهند صعوبات موثقة بعناية في أنظمتهما المالية، وقد يفوق المستوى الحقيقي للقروض الصينية المتعثرة بعدة مرات نسبة 1.75 نقطة مئوية المعلنة. وتبلغ نسبة القروض غير العاملة في الهند نحو 10 نقاط مئوية من إجمالي قروض البلاد.وتعكس الأحداث الجارية في تركيا والأرجنتين كيفية تعرض نقاط الضعف هذه للمزيد من المخاطر. وقد يؤدي تشديد السيولة على الصعيد العالمي، مدفوعاً برفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وتفادي شراء السندات، إلى تخفيض تدفقات رؤوس الأموال وزيادة تكاليف الاقتراض. هذا إلى جانب التوترات التجارية الراهنة، والعقوبات الاقتصادية هنا وهناك، وانهيار هياكل المؤسسات المالية العالمية وارتفاع حد المخاطر الجيوسياسية، ما يفضي إلى تفاقم تلك الضغوط.ومن المفهوم أن نقاط الضعف في الاقتصاد الحقيقي والنظام المالي تغذي بعضها بعضا في حلقة خاوية مفرغة. وتؤدي عمليات انسحاب رؤوس الأموال إلى تقويض قيم العملات، وانخفاض أسعار الأصول مثل السندات، والأسهم، والممتلكات. ويزيد انخفاض التمويل، وارتفاع تكاليف التمويل، من الضغوط القائمة على المقترضين الذين تجاوزوا حد الإفراط في الاقتراض، الأمر الذي يفاقم من مشاكل البنوك التي ترتد ولا بد إلى الاقتصاد المحلي، وتمدد تخفيضات التصنيفات الائتمانية وقابلية الاستثمار من تلك الدورة.ومن شأن ردود الفعل السياسية أن تزيد الأمور سوءاً. وقد يكون ارتفاع أسعار الفائدة لدعم العملات (بنسبة 60 في المائة في الأرجنتين حالياً) غير ذي فائدة فعلية، فهو يؤدي إلى تقليل وتيرة النمو ويزيد من أعباء الديون. وتعتبر العملات الضعيفة مثل المغناطيس الجاذب للتضخم، وتزيد من ضغوط النظام المالي والاقتصاد المحلي على تمويل الحكومة. وتفرض خطط إنقاذ صندوق النقد الدولي، التي لا تحظى بالفعالية المطلوبة في كل الحالات، التكاليف المالية والبشرية التي تعتبرها العديد من الدول غير مقبولة تماماً، الأمر الذي يؤدي إلى الانهيار السياسي والاجتماعي العاجل. ومقدرة صندوق النقد الدولي على المساعدة قد تتقيد بسبب الأزمات المتزامنة لدى بعض الدول.ويفترض المستثمرون أن نقاط الضعف الحرجة قد تم معالجتها والتعامل معها، بيد أن التغيرات المهمة التي حدثت فيما بعد الأزمة الآسيوية لعام 1997 قد خلقت مخاطر جديدة ومختلفة، حيث زادت أسعار صرف العملات العائمة، وحركة الصرف الأجنبي غير المقيدة من تقلبات أسعار العملات وتسمح بفرار رؤوس الأموال. وفي حين أن الديون بالعملة المحلية في تزايد، إلا أن الديون بالعملات الأجنبية غير المحمية بتدابير التحوط لا تزال كبيرة.وتسببت العائدات المرتفعة على الديون بالعملة المحلية بجذب المستثمرين الأجانب إلى كل من الهند، والصين، وماليزيا، وإندونيسيا، والمكسيك، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وبلدان أوروبا الشرقية. غير أن العملات الضعيفة قد تدفع المستثمرين إلى الهروب، ما يسفر عن إلحاق الأضرار بالأصول المحلية.وقد تعتبر تركيا والأرجنتين من الحالات الخاصة. ولكن مع اعتبار المشكلات الأساسية المعروفة، فمن المرجح للأسواق الناشئة الأخرى أن تتعرض للضغوط ذاتها. وكما جاء في نص قانون هربرت ستاين لعام 1976: «إن لم يستمر أمر ما إلى الأبد، فلا بد أن يتوقف تماماً».- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
مشاركة :