يوجد شعب فى العالم كله يعشق الغذاء، ويحافظ على العادات الغذائية عبر الزمن، ويبدع فى فنون الغذاء باستمرار، ويتواصل فيه الماضى مع الحاضر، مثل الشعب المصرى الذى يختلف كلية عن غيره من الشعوب والثقافات قاطبة فى البلدان العربية والأجنبية. أكد حسين عبد البصير عالم المصريات مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، أن ثقافة الغذاء المأكولات والمشروبات وكل ما يتغذى عليه الإنسان، وتعتبر أشكال وطقوس وعادات وتقاليد وأنواع الغذاء فى مصر راسخة وعميقة قدم الحضارة المصرية نفسها، ويعد الطعام المصرى الحديث من أهم العادات الموروثة من مصر الفرعونية منذ أكثر من سبعة آلاف عام. وأضاف عبد البصير ، أن الطعام يعتبر فى مصر الفرعونية من أهم الأشياء التى كان المصريون القدماء يحرصون على وجودها معهم فى العالم الآخر مع الأثاث الجنائزى الذى كانوا يضعونه فى مقابرهم، وكذلك من خلال تصوير الطعام والقرابين وموائد الطعام فى المناظر العديدة التى تركوها على جدران مقابرهم ومعابدهم، وكان المصريون القدماء يقدمون القرابين عند زيارة موتاهم فى المقاصير العلوية للمقابر، وهناك قرابين مصورة على الجدران، علاوة على قرابين فعلية فى حجرة الدفن كان من المعتقد أن المتوفى سوف يستعملها عند بعثه للحياة مرة أخرى فى العالم الآخر كما كان يعتقد المصريون القدماء فى البعث والخلود، وهى نفس العادات التى يقوم بها المصريون حالياً حين يزورون موتاهم ويقدمون الأطعمة المختلفة مثل الكحك والفطائر والبلح والجوافة فى العديد من المناسبات رحمة ونورا على أرواح موتاهم. وفى حجرة الدفن الخاص بمقبرة أحد الكهنة فى سقارة، تم العثور على إناء على شكل إوزة وبه بعض العظام، ووُجد فى مناظر موائد القرابين المصورة على جدران إحدى مقابر منطقة سقارة 16 نوعا من الخبز و6 أنواع من النبيذ و4 أنواع جعة و11 نوعا من الطيور، ووجد فى مقبرة الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون بقايا مأكولات كثيرة جدا، ومنها إناء جعة ذات نسبة كحول كبيرة جدا، وتُصنع البوظة حاليا، فى مدينة الأقصر وغيرها من مدن مصر، من الدقيق والسكر والماء، ويشربها العامة كى تطرد الأملاح وتنشط الكلى. وأشار عبد البصير الي أن المصريين يحرصون فى الصعيد على الإفطار بالخبز وببصلتين وطبق فول وجبنة قديمة ويشربون البوظة، وكان الخبز والجعة من أهم الأطباق المنتشرة فى مصر الفرعونية، مع بعض من البصل والثوم والعدس والكرات والفجل والخس والخيار، ويعد التين والجميز والنبق والعنب والرمان والبطيخ والبرقوق من بين الفاكهة المستمرة من أيام الفراعنة، وعرف الفراعنة أيضا الحساء المطبوخ. وكان من بين أشهر ما يقدم فى القرابين الخبز والفطائر والجعة والفاكهة والعسل والبلح والزبيب واللبن والأوز والعجول، ووجد فى مقابر الفراعنة أطعمة كثيرة مثل قطع اللحوم والحبوب والخبز والسمك والحساء والفاكهة والنبق والفطائر والعسل والخمر، وعمرت موائد نبلاء الفراعنة بالثيران والإوز والجعة والنبيذ والفاكهة والخبز، ويجفف المصريون بعض الأطعمة لاستخدامها بعد ذلك وهى عادة موروثة من مصر القديمة. وعرف الفراعنة تجفيف الفاكهة مثل العنب والبلح والتين، وكان النبيذ واللبن والجعة ضمن مشروباتهم المعروفة، وكان المصريون القدماء يأكلون على موائد صغيرة بها اللحوم والطيور والخضر والفاكهة، وكانت وجبات المصريين القدماء جماعية وعائلية مثلها الآن فى مصر المعاصرة. وكان الخبز المصرى القديم أو «العيش» كما يطلق عليه فى مصر المعاصرة بأنواعه العديدة على قائمة مائدة الطعام لدى المصريين القدماء، وكان يصور بكثرة وببراعة فنية على موائد القرابين المصاحبة لمناظر المقابر الخاصة بالنبلاء فى مصر القديمة، وبلغت أنواعه 42 نوعا، وهناك بعض منه مثل الملتوت والجرجوش والكسرة خبز «ت» والعيش الشمسى والبتاو موجود فى صعيد وريف مصر إلى الآن. وتعتبر الأسماك غذاء شهيا على موائد المصريين ، ومصدرها النيل والترع وغيرها، وكانت الأسماك النيلية هى البلطى والبورى والبياض والشيلان والقراميط، ويحرص المصريون على أكل الفسيخ السمك المملح المصنوع من أسماك البورى، والذى يستهلك بكميات كبيرة فى عيد الربيع المعروف بعيد شم النسيم. وكانت البقول من أهم الأطمعة فى مصر الفرعونية، والفول فى مصر هو أحد الأطعمة منذ بداية العصر الفرعونى، ويطهى المصريون الفول أيضا فى أكلة شهيرة تسمى البصارة وهى ذات أصول فرعونية. أما العدس فقد استخدم بوفرة كغذاء للمصريين القدماء، وكان من أهم الأغذية التى تقدم كطعام لبناة الأهرام من العمال والفنيين وغيرهم وفى مصر الحالية خصوصاً فى برد الشتاء. واستخدم الحمص كطعام مملح، وكنبات وهو ما يعرف الآن باسم الملانة، وكان الترمس يؤكل بعد نقعه فى الماء وتمليحه، والثوم مهم فى طعام المصريين، وكانت له مكانة عظيمة عند المصريين القدماء، وكان يؤكل مع الفجل. ويعتبر البصل من أقدم أنواع النباتات التى زرعها الفراعنة، وكان ضمن طعام العمال الذين اشتغلوا فى بناء الأهرامات، أما الخس فهو غذاء الملوك وطعام الحكماء، وكانت له أهميته فى الخصوبة، وكان رمزا لرب الخصوبة المعبود «مين». والبلح هو غذاء طيب للمصريين، ووُجدت كميات كبيرة من البلح فى مقابر الفراعنة، وتناول المصريون القدماء البلح طازجَا ومجففَا، وساهم البلح فى إنقاذ مصر من المجاعة فى أوقات شح الطعام. وعلى الرغم من وجود أجيال عديدة تتواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعى الجديدة، تستمر هذه العادات المتعلقة بالغذاء فى مصر الحالية مما يؤكد أن مصر القديمة لا تموت وما تزال تعيش بيننا فى مصر المعاصرة، ولعل القراءة الفلسفية والتأصيلية لهذه العادات والطقوس المتعلقة بثقافة الغذاء من مأكل ومشرب تعكس أهمية روح التواصل بين الماضى والحاضر فى مصر الأبدية؛ نظرا لما تمثله بعض الأطعمة فى مصر الحالية من امتداد طبيعى للأطعمة فى مصر الفرعونية، ومما يعتبر تواصلا أصيلا بين الماضى والحاضر. إن أغذية الفراعنة، التى لا نزال نتناولها إلى الآن، هى صمام الأمان والضمان للصحة والحيوية وطول العمر، وتعد مظاهر وعادات وتقاليد وطقوس الغذاء فى مصر احتفالا بالحياة، وبحثا عن التواصل والترابط بين الأفراد وبعضهم البعض، وبينهم وبين ماضيهم العريق.
مشاركة :