تيم فوكس*تسجل أسعار الأسهم الأمريكية ارتفاعات غير مسبوقة منذ إفلاس بنك «ليمان براذرز»، الذي كاد يتسبّب في انهيار النظام المالي العالمي قبل 10 سنوات. وبعد انحسار الركود العالمي الذي خلّفته تلك الأزمة، اتسمت السنوات التالية بنمو اقتصادي بطيء وضعيف، ولكنه لم يصل على الأقل إلى مرحلة الركود الاقتصادي المؤثر. كما أدى الذعر الذي دبّ في الأسواق خلال عامي 2008 و2009، إلى انتشار مشاعر الإحباط من بطء وتيرة الانتعاش الاقتصادي، مما أثار شكوكاً متكررة بشأن استدامته. ومع ذلك، ها هو الاقتصاد الأمريكي يدخل الآن عامه العاشر من النمو. لقد أصبح توقّع الانهيار القادم أمراً شائعاً؛ لكن وكما ثبت عدم صحة التفاؤل الذي عمّ قبيل اندلاع الأزمة المالية الكبرى، كذلك كانت نوبات التشاؤم التي أعقبت الأزمة في غير محلها أيضاً.ولا عجب أن تدعو الذكرى السنوية العاشرة لهذه الأحداث الجسيمة إلى استحضار الماضي، والتفكير في الدروس المستقاة منه، وكيفية تجنّب مثل هذه الأحداث مستقبلاً. وفيما تحفل سجلات الأحداث بمؤشرات اندلاع أزمات مالية متكررة، يبقى هذا الأمر ضمن نطاق حدوده الطبيعية، مع استقرار الأسواق المالية وتوسعها نحو مناطق أخرى من العالم. وفي الوقت الذي تبلغ فيه أسواق الأسهم الأمريكية ذرى جديدة في الأسعار، تشهد بعض الأسواق الناشئة في المقابل، هبوطاً ملموساً. غير أن العديد من الأسواق الناشئة التي تشهد اليوم منحىً هبوطياً لم تكن موجودة قبل 30 عاماً، تماماً كما أن أدوات السوق المالية التي أسهمت في إفلاس «ليمان براذرز»، لم تكن معروفة حتى سنوات قليلة فقط من حدوث ذلك. ومن جانب آخر، فإن الاختلالات الاقتصادية العالمية تتطور وتتغير بمرور الوقت، وتكاد مع النمو تصبح أضخم وأكثر تعقيداً، لتفرض تحديات ومخاطر أكبر على صناع السياسة المالية. ومع تطور التكنولوجيا، أصبح تناقل الأخبار والمعلومات أسرع بكثير مما كان عليه عند إفلاس «ليمان براذرز» قبل 10 سنوات؛ الأمر الذي قد يسهم أيضاً في تجدد اضطرابات وانهيارات الأسواق المالية وفقاعات الأسواق.ولحسن الحظ، فقد تحسنت قدرة صناع السياسة المالية على الاستجابة للأزمات مع مرور الوقت وتراكم الخبرات. وتمثلت استجابتهم الأبرز خلال السنوات العشر المنصرمة، في الاعتماد على السياسة النقدية مع دخول مصطلحات جديدة إلى قاموس الخبراء الماليين خلال فترة قصيرة نسبياً، ومنها سياسات «سعر الفائدة صفر»، و«معدل الفائدة السالب»، و«التيسير الكمي». وقد تراجعت هذه السياسات الآن لصالح سياسة «التضييق الكمي»، وهو مصطلح كان حتى السنوات العشر الماضية كذلك حكراً على الأكاديميين والمؤرخين فقط. ما نعرفه الآن، هو أن هذه السياسة تُجدي، أو يمكنها أن تجدي نفعاً على أرض الواقع، وليس فقط من الناحية النظرية أو ضمن السياق التاريخي المجرد نسبياً لثلاثينات القرن المنصرم. ولكن علينا ألاَّ ننسى بأن ما يبدو اليوم بمثابة نجاح تام، كان قبل عشر سنوات أشبه بتجربة رائعة فقط.وبطبيعة الحال، ربما تعلمنا أيضاً أن الاعتماد المستمر على التسهيلات الكمية وسعر الفائدة صفر/السالب، قد تكون له بعض الجوانب العكسية؛ إذ يمكن لذلك أن يتسبب في تفاقم أو اتساع رقعة الأزمات، مع بروز المخاوف بضرورة اتخاذ إجراءات «طوارئ»، مما يؤدي إلى تثبيط الاستهلاك نتيجة التوقعات بحدوث «انكماش». وربما تم إغفال السياسة المالية خلال الأزمة لأسباب مفهومة، تتعلق بالمخاوف المستمرة من زيادة العجز في الميزانية، ونِسب الدّين إلى الناتج المحلي الإجمالي. غير أن الحكمة المدركة بضرورة تحقيق التوازن في الميزانيات، قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة، ربما تكون قد أسهمت في حدوث حالات انتعاش متقطعة نسبياً، أقلّه في السنوات الأولى بعد إفلاس «ليمان براذرز».لقد بات العالم اليوم أكثر إدراكاً لدور القوانين والأنظمة، واختبارات الإجهاد للمصارف ونِسَب رأس المال التي ينبغي الحفاظ عليها، لضمان الاستقرار المالي والمؤسسي على حد سواء. ومع ذلك، وكما هو الحال مع السياسة النقدية، يرى الكثيرون بأن هذه القوانين تمادت كثيراً حتى إنها قد تهيئ الظروف المواتية لاندلاع الأزمات في المستقبل. فالإفراط التنظيمي مثلاً، قد يكبح شهية المخاطرة، فيما لا تزال المخاطر كامنة لدى بعض المؤسسات العالمية الكبرى، التي ربما لا تزال «أكبر من أن تتعرض للإفلاس».إن الأزمات المالية والدورة الاقتصادية لم تَبطُل مفاعيلها؛ أما الديون التي كانت السبب الرئيسي وراء إفلاس «ليمان براذرز»، فقد غدت أكبر في أعقاب الأزمة؛ نتيجة استمرار معدلات الفائدة المنخفضة التي تشجع ذلك. ولحسن الحظ، فقد تحسنت أيضاً قدرتنا على التعامل مع الأزمات، وهي مهارة سنختبرها بلا شك، عند نشوب الأزمات القادمة عاجلاً أم آجلاً.*رئيس الأبحاث وكبير الاقتصاديين في «الإمارات دبي الوطني»
مشاركة :