ما إن تجالس المؤلف والأديب السعودي الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله المشيقح، عضو مجلس الشورى سابقاً، وأحد أبرز رجال الأعمال في المملكة، حتى تشعر بأنك أمام نموذج للكاتب الشامل والمثقف الموسوعي الجامع، لما يحمله في ذاكرته من معلومات ثرية وكنوز معرفية مهمة، مكنّته من رفد المكتبة العربية بعدد لا يستهان به من المعاجم والكتب المتخصصة، التي تبيّن مدى إطلاعه وتوغله في الكتابة البحثية والعلمية، ليأتي كتابه الأخير «عقود في حوار»، الذي يروي سيرته الذاتية بأقلام آخرين، بمثابة طريق آخر لاكتشاف طبيعة التطور الذي أصاب المملكة العربية السعودية على مدار 40 عاماً ونيف، عمل خلالها الدكتور المشيقح في السياسة والاقتصاد والأدب أيضاً. ورغم تخصصه في الكتب البحثية والمعاجم، إلا أن الدكتور المشيقح لا يزال نهِماً في قراءاته، غزيراً في إنتاجاته الأدبية والبحثية، فلا يُعدّ كتاب «عقود في حوار» الأخير له، حيث لا يزال في جعبته الكثير من الكتب والمعاجم، ولعل أهمها كتابه «رحلة الكلمات العربية في اللغات الأوروبية»، الذي يتوقع أن يرى النور نهاية العام الجاري. في حواره مع «البيان»، أكد الدكتور المشيقح أن «عقود في حوار» يُمثّل وثيقة تعكس بعض الفترات الزمنية في تاريخ المملكة العربية السعودية، مُبيّناً أن الروابط الثقافية بين الإمارات والمملكة عميقة ولها امتداد تاريخي طويل، قائلاً إن أي «تطوّر ثقافي في الإمارات ينعكس على المملكة والعكس صحيح»، مُشيراً إلى حاجة المكتبة العربية للكتاب البحثي والتوثيقي العلمي، ومؤكداً أن البيئة هي من أهم المؤثرات في سلوك الإنسان وتفكيره. كتابة توثيقية برعت في الكتابة التوثيقية والبحثية، لماذا هذا التوجه، خاصة وأنه يتطلب مشقة كبيرة وبحثاً عميقاً؟ في الواقع أنا نشأت في كنف أسرة معروفة بحبها للعلم وتوقيرها للعلماء، وكذلك ممارستها للتجارة، كل ذلك زاد من حبي للقراءة التي فتحت أمامي الطريق للإطلاع على الأدب العالمي على اختلاف توجهاته، وتوجهي نحو الكتابة التوثيقية والبحثية، قد يكون ناجماً في الأساس عن تخصصي في العلوم، حيث تخرجت في علم الحيوان والكيمياء، ومن بعدها تحوّلت نحو التدريس بعد ابتعاثي للدراسات العليا في الولايات المتحدة، وبعد عودتي منها عملت مديراً للمعهد الفني الزراعي، وتنقلت من بعده في مناصب عدّة، وأعتقد أنها شكلت قفزات نوعية في مسيرتي، ولعبت دوراً مهماً في إثراء معرفتي، خاصةً وأنه تم اختياري عضواً في مجلس إدارة نادي القصيم الأدبي، واستمر ذلك على مدار 27 عاماً، خلالها اقتربت كثيراً من الآداب وتأثرت بها، وخالطت الكثير من المثقفين والأدباء الذين أثروا الساحة العربية بإنتاجاتهم، سواء الأدبية أو العلمية أو البحثية. واقترابي من الكتابة التوثيقية، أعتقد أن سببه يكمن في أن جيلنا كان يدرس للحصول على العلم وليس للوظيفة، ولذلك تعودنا على البحث عن المعلومة بنهم، وتلقف الكتب باهتمام، وذلك أثر كثيراً في نفسي، ودعاني إلى مواصلة البحث في العلوم، ومكنني من إصدار عدد من الكتب والمعاجم التي تحتاج إليها المكتبة العربية، وحتى الآن أمضيت نحو 35 عاماً وأنا أعمل في المعاجم والبحوث. أدب عالمي ذكرت أنك كنت عضواً في نادي القصيم الأدبي، فهل يمكن اعتبار ذلك فاتحة خير لك، مكنتك من الإطلاع على الأدب العالمي والتأثر به؟ انضمامي للنادي كان عاملاً مساعداً، فأنا كنت قارئاً نهماً قبل ذلك بسنوات، وكنت حريصاً على متابعة مجلة «العربي» التي تصدر من الكويت، التي كانت مصدر إلهام كبير لي ولأبناء جيلي آنذاك، ولا أنكر أنني تأثرت كثيراً بأسلوب رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي، الذي كان يعتمد الأسلوب «العلمي المتأدّب»، أي يخلط بين العلم والأدب. وأذكر أن المجلة كانت تُصدِر «كتاب الشهر»، وهو عبارة عن تلخيص شامل لأحد الكتب، وأعتقد أن هذا القسم تحديداً، أسهم كثيراً في تمكيني من الاطلاع على الكثير من الكتب العربية والأجنبية. كلمات عربية إلى جانب مجموعة المعاجم التي قمتَ بإصدارها، تعمل حالياً على تأليف كتاب «رحلة الكلمات العربية في اللغات الأوروبية»، هل يمكنك إطلاعنا على فحوى هذا الإصدار، ومتى يرى النور؟ أهمية هذا الكتاب تنبع من كونه يشكل بحثاً في طبيعة الكلمات العربية التي هاجرت إلى اللغات الأخرى، وسكنت فيها، إذ إن بعضها تمّ الاعتراف بها مثل «قطن» و«سكر» وغيرها، في حين أن بعضها الآخر لم يتم الاعتراف به حتى الآن. وأسعى في هذا الكتاب إلى جمع كافّة الكلمات التي انتقلت إلى الغرب بشتى الطرق، سواء من خلال التجارة أو مع المهاجرين وغير ذلك، ووفّقت في جمع نحو 400 كلمة، حيث أقوم بوضع الكلمة وشرحها، وأحاول أن أبَيّن طريقة انتقالها نحو اللغات الأخرى، وأعتقد أنه لم يبقَ أمامي إلا القليل من الوقت حتى يرى الكتاب النور، وأتوقع أن يكون جاهزاً مع نهاية العام الجاري، خاصةً وأن الكتاب يحتاج إلى جهد كبير وتوفير المصادر والتعامل مع شتى اللغات الأوروبية بخلاف الإنجليزية. وثيقة تاريخية أصدرت أخيراً، كتاب «عقود في حوار» وهو عبارة عن سيرة ذاتية كتبت بأقلام آخرين، إلى أي حد تشعر بأن الكتاب نجح في عكس طبيعة الحياة في السعودية على مدار أكثر من 40 عاماً؟ «عقود في حوار» هو عبارة عن سيرة ذاتية، ولكنها ليست عادية، حيث إنها كتبت بأقلام أناس آخرين، ويوثق لفترات زمنية مختلفة، حيث إنني قسمت الكتاب إلى 3 فصول، الأول خلال فترة عملي في المعهد الزراعي، والثاني خلال عملي في غرفة التجارة، والثالث عندما كنت عضواً في مجلس الشورى، وميزة الكتاب أنه يجمع كافّة الحوارات الصحافية التي أجريت معي على مدار نحو 40 عاماً، وتنوعت أسئلتها بين التعليم والزراعة والصناعة والتجارة وبعض الأسئلة العامة، وكتبت بأقلام صحافيين عملوا في عدد من الصحف السعودية والعربية. امتداد الكتاب على مدار 4 عقود، أعتقد أنه يُمكّن قارئه من الإطلاع على طبيعة التطور الذي أصاب المملكة في شتى النواحي، كما يُمكّنه من أن يتعرف إلى طبيعة الناس في كل فترة، وكيف كانوا يفكرون ويتعاملون مع الأمور، وهو ما يمكنني اعتباره وثيقة تاريخية تعكس بعض الفترات الزمنية في تاريخ السعودية، لاسيما وأننا نتحدث عن 38 لقاءً صحافياً، لكل واحد منها طريقة مختلفة عن الآخر. صدى هل يمكن أن تعيد تكرار التجربة مرة أخرى، سواء من خلال إعادة طبع الكتاب أو إصدار كتب سيرة ذاتية أخرى؟ هذا الكتاب لقي صدى جيداً، سواء على مستوى المملكة أو الخليج، حيث تم تدشينه 8 مرات في عدد من المدن السعودية والعربية، ويمكنني القول إنه يمكن إعادة طبعه مجدداً في حال أردت إضافة بعض الحوارات الصحافية الجديدة إليه. أما من ناحية السير الذاتية الأخرى، فلدي كتب تروي سيرتي الذاتية الخاصة مثل «رحلتي بين المجالس واللجان»، حيث تُوثّق كل مرحلة زمنية مررت بها وعايشت فيها عدداً من الزملاء الذين أثروا معرفتي، كما أن لدي كتاباً يروي سيرة والدي عبدالله، الذي عايشته فترة طويلة، وآخر يروي سيرة جدي عبدالعزيز، الذي كان يمتلك العديد من الوثائق المهمة للغاية، والتي ارتأيت أن أجمعها في كتاب واحد. ولدي أيضاً «الموسوعة العربية للعلوم العربية والتقنية»، وهي مُسوّدة جاهزة وموجودة في 8 مجلدات، ولكنها تحتاج إلى مراجعة، وأعتقد أن أهمية هذه الموسوعة توازي أهمية المعاجم، حيث قمت فيها بشرح بعض المعاني والمصطلحات المتخصصة بالتفصيل. روابط ثقافية بين الإمارات والسعودية روابط ثقافية ممتدة وعميقة، كيف ترى انعكاساتها على العلاقة بين الطرفين؟ بلا شك أن العلاقة بين الإمارات والسعودية عميقة، ولها امتداد تاريخي طويل، فضلاً عن كونها متداخلة بشكل كبير في كافة النواحي، سواء في الدين أو اللغة أو علاقات الجوار، وكذلك المصاهرة وغيرها، لذلك أعتقد أن الترابط والتعاون الثقافي والتشابه في ما بيننا كبير جداً، ولذلك دائماً ما أعتبر أن أي تطوّر ثقافي أو علمي في الإمارات ينعكس إيجاباً على المملكة والعكس صحيح، نظراً لقوة التداخل بيننا، علماً بأن هذا الانعكاس يتم بسرعة لافتة ولا يحتاج إلى فترة زمنية كبيرة كما يحدث بين الدول الأخرى، لاسيما في الوقت الحاضر، في ظل تطور التكنولوجيا التي سهلت عملية التواصل وعمّقت هذه العلاقات. ففي تقديري أن وجود حركة تبادل ثقافية نشطة بين الإمارات والسعودية، وانتشار دور النشر ومعارض الكتب والجامعات والزيارات اليومية بين البلدين، عزّزت من هذه العلاقات التي أتوقع أن تمتد آثارها إلى المستقبل أيضاً. المكتبة العربية بالاعتماد على ما تقوم بتأليفه وإصداره من كتب، هل تعتقد أن المكتبة العربية بالفعل تحتاج إلى الكتاب البحثي والتوثيقي، في ظل انتشار التكنولوجيا وتوافر المصادر؟ نعم، المكتبة العربية تحتاج إلى مثل هذه الكتب، ووجود الكتاب البحثي والتوثيقي العلمي، ضروري للغاية، على الرغم من وجود وتعدد المصادر وأشكال التوثيق الإلكترونية الأخرى، فالكتاب الورقي يظل ذا مكانة وحضور، بدليل أن معارض الكتب في العالم لا تزال مزدحمة، ويسافر إليها الناس من دولة إلى أخرى. ولكن بتقديري أن الإشكالية التي نواجهها حالياً تكمن في اعتماد التعليم لدينا على اللغات الأجنبية بشكل رئيس، وهذه بلا شك إشكالية كبيرة، قادرة على خلق التقاعس والابتعاد عن الكتاب العربي، ولتلافي ذلك علينا أن نشجع حركة الترجمة والتأليف العربية، والكتابة العلمية، والاهتمام أكثر بطباعة الدراسات العلمية وعدم تركها حبيسة الأدراج، لأن البحث في العلم هو حالة متجددة باستمرار. واقع مُعاش هل تعتقد أنه يجدر بالكاتب أن يكون ابن بيئته، حتى يتمكن من تناول قضايا الواقع المُعاش، أم أن ذلك غير ضروري؟ علينا أن نتفق بدايةً أن البيئة من أهم المؤثرات في سلوك الإنسان وتفكيره، ولكن أعتقد أنه ليس شرطاً أن يكون الكاتب ابن بيئته حتى يتمكن من توثيق أو نقل الواقع المعاش، فهناك الكثير من الكتاب الذين ألّفوا وأصدروا كتبهم بعيداً عن بيئتهم، وهناك من كتبوا عن بيئات أخرى، وتحوّلت كتبهم إلى مراجع مهمة، كما حدث مع المستشرقين الذين مرّوا في المنطقة العربية، وقدموا كتباً ومراجع مهمة، والأمر كذلك ينسحب على الأدباء العرب الذين نشؤوا في المهجر، حيث قدموا مجموعة من الروائع الأدبية، وهو ما يقودنا إلى القول إن الكتب ليست متشابهة، وإنما هناك كتب متأثرة بالمكان أو الزمان، وبعضها مرتبط بالأشخاص والأحداث. سيرة الدكتور عبدالرحمن عبدالله المشيقح، كاتب وإداري ورجل أعمال سعودي، من مواليد مدينة بُريدة السعودية عام 1945، حيث نشأ وتلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي، حاصل على دكتوراه في التربية من جامعة «كندي وستيرن» بالولايات المتحدة الأميركية في عام 1989، خلال مسيرته تقلّد المشيقح العديد من المناصب، كما حمل عضوية مجلس الشورى السعودي ثلاث دورات، وصدر له عدد من الكتب من أبرزها «سطور في التنمية»، و«محصول بنجر السكر زراعة وصناعة»، و«التعليم المهني والتقني وحتمية التوجه العربي»، و«معجم المشيقح التقني للمصطلحات العلوم الزراعية والبيئية»، و«معجم المشيقح التقني للمصطلحات العلمية والهندسية»، وغيرها.طباعةEmailÙيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :