تستهوينى مذكرات وسير الأوربيين الذين عاشوا فى مصر فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لأنها ترسم صورة للحياة الاجتماعية والسياسية تختلف كثيرا عما يكتبه المصريون عن أنفسهم، علماء الآثار عالمهم أكثر غنى، لأنه مليء بالحكايات بعيدا عن العاصمة وقصور الحكم، والمكتبة العربية نقلت عشرات وربما مئات الكتب التى كتبها هؤلاء، إلا أن العزوف الرسمى عن تاريخ الحضارة المصرية، جعل الناشرين لا يرحبون بهذه النوعية من الكتب، ولكن بين الحين والآخر يصدر كتاب ضمن مطبوعات وزارة الثقافة يستوقفك صاحبه ومحتواه، وكيف كانت الحضارة المصرية القديمة عزيزة على المصريين فى لحظات المد الوطنى، لدرجة أنه حين رحل سعد زغلول عن عالمنا وحدث خلاف على شكل مقبرته: هل تكون على الطراز الإسلامى أم الفرعونى؟، ينتصر أنصار الخيار الثانى داخل البرلمان وعلى المستوى الشعبى، وقع تحت يدى كتاب فى غاية الأهمية صدر عن المشروع القومى للترجمة قبل عشر سنوات اسمه «ولدت بمصر منذ 4700 عام» تأليف جون فيليب لويز وكلودين لوتورنور ديسون، ترجمه عن الفرنسية وقدم له حسن نصرالله، يكشف كيف فتحت بطن الأرض أمام العلماء والمغامرين والساسة، وكأن هذه الأرض وهذه الكنوز ليس لها صاحب، لويز مولود فى باريس 1902، فى 1926 وصله خطاب من ابن عمه يطلب منه المجيء إلى مصر لأن مصلحة الآثار تحتاج إلى مهندس معمارى يعمل لعدة أشهر، لتتغير حياته ويعيش حياته كلها فى مصر ويبدو أنه عمّر كثيرا لأنه تحدث عن زاهى حواس وفاروق حسنى ووقائع قريبة، يحكى فى الكتاب جروبى وقهوة الفيشاوى التى يجلس فيها الكاتب الشاب نجيب محفوظ، عمل مع معظم علماء المصريات، وعاش بمنزل صغير بسقارة، ساهم فى أعمال عظيمة فى الترميم والاكتشافات، تحدث عن مهزلة ترميم كتف أبوالهول، والأهم يعرض تحولات مصر من الملكية إلى الجمهورية وزيارات عبد الناصر ومبارك لسقارة وزيارات الملوك والرؤساء الأجانب بعين مدققة، وكانت أمنية حياته العثور على قبر إيمحوتب وقبر المهندس الذى شاد هذه المجموعة، تحدث باحترام عن الملك فؤاد وعن فاروق، ومعيار الوطنية عنده هو عدم الرضوخ للإنجليز، طبعا لأنه فرنسى وليس مصريا!، حكى عن مؤامرة تهريب رأس نفرتيتى إلى ألمانيا، الذى اكتشفه المعهد الألمانى للآثار الشرقية فى تل العمارنة، عاصمة أخناتون بقيادة بورخاردت (أحد أوائل المعماريين الأثريين والأول الذى اهتم بالعمارة المصرية كما هى)، الذى أبعد العمال حتى لا يلحظ أحد شيئا، مصلحة الآثار تشترط بوضوح «أن الآثار المكتشفة تبقى ملكا لمصر، وتلك التى يمكن إخراجها هى التى يوجد لها أكثر من نموذج، أو تلك التى لا تحمل قيمة تاريخية أو ألا تكون وثيقة فريدة»، بوخاردت أخرج الملكة من مخبئها وعرضها فى متحف برلين، وثارت الدنيا: كيف خرج عمل كهذا؟، واتخذت الحكومة المصرية قرارا بمنع الألمان من إجراء أى حفائر، ما داموا لم يرجعوا تمثال الملكة، إلى أن تعهد الوزير الألمانى البارون فون شتوهرر للملك فؤاد أن بلده قررت أن ترد لمصر التمثال النصفى للملكة، أيام ويصل هتلر إلى السلطة، وطلب أن يرى التمثال، وبعدها كان على فون شتوهرر أن ينقل للملك فؤاد تلغرافا من برلين يعلمه بوقاحة «فخامة أدولف هتلر الزعيم المستشار، بعد طلبه رؤية التمثال النصفى للملكة نفرتيتى بمتحف برلين وقع فى غرامها، ويأسف بشدة لعدم استطاعته مفارقتها!» ومن الحكايات الحزينة فى الكتاب، حكاية زكريا غنيم الأثرى المصرى الطموح الذى عمل مساعدا للويز والذى حقق نجاحات باهرة، وحاضر فى أمريكا وكان غيورا على مصر وآثارها، وصدر عنه كتاب فى لندن، هذا الرجل بسبب الغيرة وبسبب نجاحاته اتهم بسرقة «آنية»، وجدها جون فيليب لويز، الذى يحكى «فكرت فى متحف القاهرة، حيث مئات من الأوانى المستخرجة من الدهاليز الموجودة أسفل الهرم قد وضعت فى مخازن المتحف، وأمضيت ساعات طويلة فى فحصها، وفجأة وفى ركن وقعت عينى على الآنية التى أبحث عنها، أمسكت بدليل براءة زكريا، وكتبت له لإخباره بالنبأ السعيد».. لم يقرأ زكريا الرسالة.. لأنه فى اليوم نفسه ألقى بنفسه فى النيل.
مشاركة :