لا يمكن للموظف أن يمنح ولاءه للمؤسسة دون أن يشعر بالانتماء الفعلي لها، الانتماء الذي يتعدى بطاقة التعريف ومصدر الدخل. هذا الانتماء يعززه إدراك الرئيس المباشر لحقيقة أن الإدارة ليست نظاما مجردا يتعذر الحديث عن برامج جودة الحياة التي تسعى الدولة لتحقيقها ضمن برامج الرؤية بدون التطرق للسلامة النفسية في بيئة العمل، هذا العنصر المغيَّب عند الكثيرين. يتأثر أداء الموظف بحالته النفسية، الظروف التي يمر بها والهموم التي تتآكله دون أن يراها أحد. لا يمكن من وجهة نظري قيادة البشر بالحزم الإداري والأنظمة فقط، بل لا بد أن نتوّج فهمنا للإدارة بتفهّم أحوال الموظفين الذين نتولى قيادتهم ونؤمل صناعة وتعميق ولائهم. في هذا السياق سأتطرق لقصتين عايشت بعض فصولهما مؤخرا. القصة الأولى: خلال إجازة الصيف قدّر الله سبحانه أن تنتقل ابنة إحدى الإداريات في مدرسة متوسطة ما إلى رحمة الله.. هذه الابنة هي وحيدتها ولم يرزقها الله من الأبناء غيرها. كانت البنت الراحلة ترتاد ذات المدرسة ولها في كل زاوية ذكرى! طلبت الإدارية من مديرة المدرسة التوقيع بالاستغناء عنها ودعم طلبها في النقل لأي مدرسة أخرى في المدينة المترامية، لأن وجودها في هذه المدرسة يجدد عليها مواجع الفقد كل يوم. كانت رؤية صديقات ابنتها تفتت كبدها ولا تلام في ذلك. رفضت المديرة بسبب حاجة العمل! ولا أدري أي عمل يمكن أن تقدمه أم مكلومة في هذه الظروف النفسية المؤلمة. القصة الثانية: في بداية العام الدراسي تم تشخيص أم إحدى المعلمات بسرطان القولون، عافاها الله وإياكم، وكلنا يعرف هيبة مرض الرحمة والرهبة التي ترافق اسمه. احتاجت المعلمة لمرافقة والدتها للمواعيد والفحوص من مدينة لأخرى حتى استقر الحال على الخطة العلاجية المناسبة في مدينة الظهران، بعيدا عن مقر عملها في أقصى الجنوب. حرصت المعلمة على تقديم الأعذار الطبية ومعها ما يثبت حاجة أمها لها، ولكن المديرة كان لها رأي آخر، ورفعت بعض أيام الغياب بدون عذر، من ضمنها الأيام التي خضعت فيها الأم لعملية استئصال للورم وبعض أيام العلاج الكيماوي. لا يمكن للموظف أن يمنح ولاءه للمؤسسة دون أن يشعر بالانتماء الفعلي لها، الانتماء الذي يتعدى بطاقة التعريف ومصدر الدخل. هذا الانتماء يعززه إدراك الرئيس المباشر لحقيقة أن الإدارة ليست نظاما مجردا، وأن البشر ليسوا أرقاما، وأن روح النظام يجب أن تسبق النظام عند التعامل معهم، هذا لا يعني أن نلقي الحبل على الغارب، بل أن نمسك العصا من المنتصف ونقود الآخرين بالحب والاحترام لتحقيق رؤيتنا وجودة حياتهم جنبا إلى جنب، خصوصا إذا تعلق الأمر بضغوطات خارجة عن إرادتهم وسيطرتهم. لذلك عزيزي المدير في المرة القادمة التي تفكر فيها بالأرقام فقط دون مراعاة الحالة الخاصة التي تتعامل معها حاول أن تسترد عافيتك بتمثَّل القول الشهير «في هذه الحياة كن إنسانا أو مُتْ وأنت تحاول».
مشاركة :